جاد حداد

Collision... إثبات آخر على تطور السينما الأفريقية

20 حزيران 2022

02 : 01

تُعتبر القارة الأفريقية منذ سنوات طويلة من أكثر الأماكن التي تواجه المشاكل في العالم. خلال العصور الغابرة، نشأ عدد من أكبر حضارات العالم هناك، لذا من المنطقي أن يسمّيها الكثيرون مهد البشرية. لكن تعرّضت هذه القارة طوال مئات السنين للتدمير بسبب قوى خارجية مثل توسّع حملات الاستعمار، ثم استغلال الموارد من جانب الشركات الأجنبية، ولا ننسى الصراعات الداخلية بين شعوب القارة.

بسبب هذه العوامل وسواها، بقيت القارة الأفريقية متأخرة في جوانب عدة أصبحت وقائع يومية في أماكن أخرى من العالم. كانت السينما من جوانب الحياة البشرية التي بقيت متأخرة في أفريقيا، فبدا تطوّر قطاع الأفلام هناك بطيئاً جداً. لكن مع ظهور تقنيات جديدة وبفضل عجائب الإنترنت في هذا العصر، أصبح صانعو الأفلام الأفارقة مستعدين أخيراً لإثبات قدرتهم على خوض المنافسة في السوق الدولي.

يروي الفيلم الجنوبي الأفريقي Collision (الاصطدام) قصة رجل أعمال فاسد وزوجته المتغطرسة وهما يحاولان إنقاذ ابنتهما من قبضة مجرم مرعب في "جوهانسبرغ"، مدينة الذهب. الفيلم من إخراج فابيان مارتوريل، ومن بطولة لانغلي كيركوود، وتيسا جابير، وزوي سنيدون.

يُعتبر هذا الفيلم أحدث مثال على قدرة أفريقيا على منافسة الآخرين في سوق الأفلام الدولية عبر طرح أعمال بارزة قد يستمتع بها عدد كبير من المشاهدين. لطالما كانت الأفلام المستقلة تجربة مثيرة للاهتمام في القارة الأفريقية وفي جميع دول العالم أيضاً. لكنّ إنتاج أفلام مكلفة يتطلب عقلية مختلفة ومستوىً آخر من الموارد، وهي قدرات لم يكن يملكها صانعو الأفلام هناك حتى الفترة الأخيرة.

لكن بفضل شركات إنتاج مثل "نتفلكس"، تمكنت السينما الأفريقية من إحراز التقدم وإنتاج عملٍ يهدف في المقام الأول إلى عرض محتوى ترفيهي. يُحقق الفيلم الجديد هذا الهدف بكل وضوح، إذ ينجح المخرج مارتوريل في خلق أجواء مشوّقة ويقدّم مشاهد حركة مثيرة عند الحاجة. قد لا يصل العمل إلى مستوى أفلام ديفيد فينشر ولا تضاهي مشاهد الحركة ما نشاهده في سلسلة John Wick مثلاً، لكنه يبقى فيلماً واعداً.

يشمل الفيلم أيضاً أداءً تمثيلياً مبهراً، فهو يثبت أن المواهب الأفريقية لا تنحصر وراء الكاميرا فحسب، بل أمامها أيضاً. يقدّم الممثل فويو دابولا أداءً مدهشاً بدور المجرم الأساسي "برا سول" الذي يحكم منطقته بقبضة من حديد، وهو يسرق الأضواء في جميع المشاهد التي يشارك فيها. كذلك، يبلي لانغلي كيركوود حسناً بدور رجل الأعمال الفاسد الذي يخسر سيطرته على الوضع الذي يعيشه للمرة الأولى على الإطلاق.





على صعيد آخر، تترك زوي سنيدون انطباعاً إيجابياً بدور "نيكي"، الشابة اللامعة التي تجد نفسها فجأةً في وضعٍ مريع. هي تشكّل صلة وصل بين الثقافات والطبقات الاجتماعية، علماً أن هذه المواضيع تزداد أهمية مع تطور أحداث الفيلم. يحمل العمل تعليقات اجتماعية مبهرة. قد يبدو مبالغاً فيه في لحظات معيّنة، لا سيما بالنسبة إلى من لا يفهمون سياق الظروف المعروضة بالكامل، لكن يشكّل هذا الأسلوب في نهاية المطاف أداة تعليمية مدهشة.

قد يكون استكشاف ظاهرة كره الأجانب الشائعة في جنوب أفريقيا اليوم من اللحظات التي تدفع المشاهدين إلى رؤية انعكاسهم في المرآة لدرجة أن يجدوا صعوبة في متابعة المشاهدة، لكنّ هذا الجانب من القصة يرفع مستوى العمل. ليس مفاجئاً أن يترك الفيلم بصمة قوية في جنوب أفريقيا، كونه يتجاوز هدفه الترفيهي ويجرؤ على التطرق إلى مسائل واقعية تحتاج إلى من يناقشها ويعالجها.

من الناحية البصرية، يتّسم الإخراج بأسلوب بسيط وغير مكلف، وهو يبث حيوية فائقة في مختلف المشاهد، لكن قد يقع هذا النهج في فخ التكرار والملل عند المبالغة في استعماله. ينجح مارتوريل وأعضاء فريقه في تقديم الكثير رغم ضعف الإمكانيات، لذا يستحقون الإشادة في مطلق الأحوال. يبث هذا الفريق الحياة في مشاهد المدينة، ويعرض الفيلم لقطات مدهشة من "جوهانسبرغ"، فيستمتع بها كل من لم يقصدها يوماً.

لكن يتخذ الفيلم منحىً مبتذلاً بدرجة معينة على مستوى إيقاع الحبكة للأسف، حتى أن الأحداث تبدو متوقعة بشكل عام. يجد السيناريو صعوبة واضحة في عرض لحظات مبهرة أو لها أهمية خاصة في العصر الراهن. لهذا السبب، قد يبدو الفيلم سطحياً ويمرّ مرور الكرام عند مقارنته بأفلام أخرى في مكتبة "نتفلكس" أو مختلف المنصات الرائجة. أصبحت المنافسة في عالم السينما محتدمة اليوم. قد تثبت أفريقيا عبر هذا الفيلم وسواه قدرتها على خوض المنافسة، لكنها لا تملك الإمكانات اللازمة للفوز بها حتى الآن.

في النهاية، يبقى الفيلم ممتعاً جداً ويحافظ على جوانبه الترفيهية طوال 90 دقيقة. لكنه يكشف في الوقت نفسه جوانب عدة من الحياة في جنوب أفريقيا، ما يعني أنه متعدد الأهداف. يمكن اعتباره إذاً خطوة أولى ممتازة في الاتجاه الصحيح، وهو ينذر برفع مستوى الأعمال الأفريقية في المراحل المقبلة.


MISS 3