نفّذ الإتحاد العام للشغل في تونس (أكبر نقابة عمالية مؤثرة في البلاد) إضراباً عامّاً الخميس الماضي، شلّ البلاد تقريباً بنسبة التزام زادت على 95%. وهذا الإتحاد يمثل مصالح 700 ألف إلى مليون عامل وموظف، لا سيما في القطاع العام، ويرفض المساس بالحقوق العمالية المكتسبة معتبراً إياها خطّاً أحمر لا يمكن تجاوزه في مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي.
شلّ الاضراب حركة الملاحة الجوية، وشمل 159 مؤسسة حكومية بينها المطارات والموانئ ووسائل النقل وشركات الكهرباء والغاز والاتصالات والمياه، وبعض القطاع الصحي المملوك للدولة، وغيرها من المرافق العامة.
الأولوية لمعيشة الناس
وأتى الاضراب الشامل بعد فشل التفاوض بين الحكومة والنقابات. ففي الوقت الذي تسعى فيه الحكومة الى لجم كتلة الأجور، تطالب النقابات بتصحيحها وزيادتها لسنوات 2021 و2022 و2023.
بالنسبة لاتحاد الشغل، الاولوية تبقى لمعيشة الناس، وليس للاصلاحات التي يمكن ان تنتظر أو تنفذ على حساب غير العمال. فتصحيح الأجور أولوية في ضوء ارتفاع التضخم بنسبة 8%، كما يطالب الاتحاد بالغاء تعميم حكومي يطلب موافقات رسمية مسبقة لأي مفاوضات في أي قطاع بين الادارات والعمال والموظفين. وهناك تهديد باضراب في 20 و21 حزيران/ يونيو الحالي، أي في الأيام التي يصل فيها وفد من صندوق النقد لاستكمال محادثات تقنية مع الجهات الحكومية المعنية بالاصلاح.
إتحاد تاريخي وشرس
ويذكر أن هذا الاتحاد، المؤسس في 1946 والحاصل في العام 2015 على جائزة نوبل للسلام لمشاركته في الحوار الوطني (ما بعد الثورة)، يبقى غير قابل لأي احتواء سياسي، ويعد أحد أقوى النقابات في العالم.
ويعتبر اتحاد الشغل حالياً أحد اركان معارضة الرئيس قيس سعيد، خصوصاً بعد تسريب مادة في مشروع الدستور الجديد ترمي الى تقييد حق الاضراب. اضافة إلى أن نقابات ترى في توجهات الرئيس جنوحاً غير ديمقراطي قد يمحو ما حققته الثورة التونسية من حريات. ويرفض الاتحاد شروط الاصلاح التي تفاوض عليها الحكومة مع صندوق النقد الدولي ويطالب بضمانات لعدم خصخصة المؤسسات العامة والشركات الحكومية. وهذ التشدد مستغرب، من جهات اقتصادية محايدة، لأن تلك الشركات والمؤسسات تعاني عجزاً مالياً بمليارات الدولارات، وخسائرها متفاقمة وكذلك ديونها، وفيها فائض موظفين كبير.
شروط صندوق النقد
ويرمي التفاوض مع الصندوق الى حصول تونس على قرض بنحو 4 مليارات دولار مقابل إصلاحات أبرزها الآتي:
- لجم فاتورة الأجور، ثم خفضها من 15.6% الى 12% من الناتج، علما بأنها كانت 10% في 2020
- إصلاح نظام الدعم لا سيما الكهرباء والمحروقات والغاز، بحيث يلغى دعم المنتجات ويستعاض عنه بدعم الأشخاص الذين هم الأكثر حاجة إليه
- ضبط عجز الموازنة، وزيادة التحكم بالنفقات العامة
- إنشاء نظام ضريبي عادل
- إصلاح المؤسسات العامة
- تحسين مناخ الاستثمار
ربما أعاد إضراب العمال والموظفين التفاوض مع صندوق النقد الى نقطة الصفر. فالصندوق يطلب توافقاً داخلياً على الاصلاحات قبل المضي قدماً في التفاوض نحو توقيع اتفاق القرض.
وكان صندوق النقد عدل آلية التفاوض مع تونس بعدما فشلت الحكومة في تنفيذ اصلاحات وعدت بها منذ العام 2017 والسنوات اللاحقة رغم الحصول على قسط من قرض الصندوق قيمته 308 ملايين دولار. وجمد الصندوق أي صرف اضافي ريثما يحصل اتفاق حول تنفيذ الاصلاحات والبدء بتنفيذها بحيث يصرف قرض الأربعة مليارات على مراحل في موازاة التقدم في تنفيذ الاصلاحات. وكشفت وزيرة المالية التونسية سهام البوغديري، الثلاثاء الماضي، أن حكومة بلادها تتجه لمراجعة أجور موظفي القطاع العام وكذلك دعم المحروقات وبعض المواد الأساسية، ضمن رزمة إصلاحات اقتصادية أعلنتها الدولة. والاصلاحات تشمل خفض كلفة أجور القطاع العام البالغة حالياً 6.8 مليارات دولار اي 35% من الانفاق العام، وهي بين اعلى النسب في العالم (660 ألف موظف)، ورفع تدريجي لاسعار الكهرباء والغاز والمحروقات ومكافحة تهريب المواد المدعومة والتلاعب بها، بالاضافة الى اجراءات خصخصة ومراجعة قانون الوظيفة العامة.
خوف من النموذج اللبناني
وقال محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي الجمعة الماضي انه اذا لم تحصل تونس على قرض الصندوق فانها ستواجه وضعاً كالذي يعصف بلبنان وفنزويلا حيث انهارت المالية العامة. ويعتبر ذلك القرض ملاذاً للبلاد من مغبة الوقوع في الافلاس، ويضمن لتونس الحصول على أموال خارجية أخرى.
وتسعى الحكومة الى ذلك القرض لتعزيز موازنة هذه السنة التي تحتاج الى نحو 4.2 مليارات دولار قروضاً، علماً أن هذا المبلغ حدد قبل ارتفاع اسعار النفط والقمح بشكل كبير جداً، بعد بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا.
جنوح رئاسي
وإلى الأزمة الاقتصادية الخانقة تضاف الأزمة السياسية. فبعد أن احتكر معظم السلطات، يريد الرئيس قيس سعيد تعديل الدستور لقلب صفحة عمرها 10 سنوات من الشلل الذي أصاب البلاد بعد قلب نظام بن علي في 2011. ويندرج اضراب اتحاد الشغل أيضاً في سياق معارضة متعاظمة للرئيس منذ تموز/ يوليو الماضي عندما استحوذ على معظم السلطات. آنذاك استقبلت شرائح واسعة من السكان الأمر بالترحاب والارتياح أملاً منها بوضع حد للصراعات السياسية وفضائح الفساد التي تفتك بالبلاد. وكان لا يزال الرئيس قيس سعيد يتمتع بصورة «الرئيس النظيف» وفقاً للوصف الذي يطلقه عليه تونسيون. إلا ان شعبيته تراجعت في موازاة ترسيخ جنوحه للاستحواذ على السلطات وسيره الحثيث وحيداً، من دون تشاور واسع، لتعديل الدستور. وتعمل لجان حالياً على ذلك التعديل تمهيداً لوضعه في استفتاء شعبي وطني عام في 25 تموز/ يوليو المقبل. وعلى هذا الصعيد، يرفض اتحاد الشغل المشاركة، معتبراً ان الحوار حول التعديل الدستوري كان صورياً، وان الغاية هي منح الرئيس سلطات أكبر مما يتمتع به الآن.
وزادت سلطات الرئيس كثيراً منذ تعليق البرلمان قبل نحو سنة، وهو برلمان كان متهماً بانه عاجز واحزابه فاسدة. وباتت البلاد تحكم بمراسيم الرئيس مع سيطرة على السلطة القضائية وهيئة الاحزاب، مع حصول تهميش نسبي لتلك الأحزاب.
أسوأ أزمة منذ الاستقلال
وفي ضوء مراجعة الشروط المسبقة المطلوبة من صندوق النقد، أصدر مجلس ادارة الغرف المشتركة في تونس نداء للنهوض بالاقتصاد. وقال انه يأخذ في الاعتبار خصوصية الوضع الاقتصادي الحالي، لكنه يذكر بتطلعات القطاع الخاص لتحسين مناخ الاستثمار في البلاد بغية خلق فرص عمل للتونسيين. لكن بعض مطالب القطاع الخاص تذهب باتجاه معاكس لمطالب إتحاد الشغل مما يعقد المسألة أكثر أمام الحكومة.
ويواجه الاقتصاد التونسي أسوأ أزمة منذ الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي، ففي تقرير لوكالة بلومبرغ وردت تونس بين 13 دولة هشة مالياً معرضة لهزة في الاسواق، حيث ان التأمين ضد التخلف عن دفع الديون يرتفع بقوة، وهو الأعلى منذ 2020، اي السنة التي انتشر فيها وباء كورونا بقوة حول العالم معرضاً الاقتصادات الهشة لركود أو انكماش، ومالياتها العامة الى عجوزات كبيرة. وكانت تونس قبل 3 سنوات تستطيع الاقتراض من اسواق المال الدولية بفائدة 10% مع استحقاقات طويلة الأمد. أما اليوم، فهي مضطرة لدفع معدل فائدة أعلى من 25%، ولأجل استحقاق لا يزيد على سنتين أو ثلاثة.
أزمات متراكمة
وترفض الحكومة الحالية تحميلها مسؤولة التردي الاقتصادي الذي تعانيه البلاد. فالأوضاع بدأت تسوء منذ الاعتداء الارهابي في 2015 التي استهدفت فندقاً في ولاية سوسة على الساحل الشرقي. وأدى ذلك الى مقتل 37 شخصاً ووجه ضربة قاصمة لقطاع السياحة الذي يعتمد عليه الاقتصاد التونسي بقوة. ولم يكد ذلك القطاع الخروج من تداعيات الاعتداء الارهابي حتى بدأ يتفشى وباء كورونا، ثم أتت الحرب الروسية الأوكرانية. وحصل نقص كبير في الايرادات وفي الاستثمارات العامة، في موازاة خروج الرساميل المحلية والاجنبية من البلاد. ثم وصلت البلاد الى مرحلة صعوبة أو شبه استحالة الحصول على قروض ميسرة باتت مرتبطة باتفاق مع صندوق النقد الدولي.
معظم المؤشرات سلبية
وبسبب الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعانيها البلاد ارتفع عجز الموازنة على نحو مقلق من توقع 6.7% في 2022 الى 9.7% من الناتج المحلي. والسبب الرئيس يأتي من تداعيات الحرب في أوكرانيا التي تسببت في ارتفاع اسعار الطاقة والمواد الغذائية. ويتفاقم عجز الموازنة بشكل أساسي جراء منظومة دعم لعدد من المواد للتخفيف عن المواطنين أعباء ارتفاع الأسعار، في بلد يناهز فيه الحد الأدنى الشهري للأجور 135 دولاراً.
وتواجه تونس ارتفاعاً غير مسبوق لديونها الى مستوى يزيد على 100% من الناتج. وبلغ الدين العام 106 مليارات دينار (35 مليار دولار) بزيادة نسبتها 8.6% بين آذار/ مارس 2021 وآذار/ مارس 2022.
وكان الاقتصاد التونسي انكمش في 2020 بنسبة 8.7% بسبب انتشار كوفيد 19، وفي 2021 كانت عودة النمو متواضعة عند 3.1%، وفي مطلع العام الحالي بلغت 2.6% وفقاً لإحصاءات البنك المركزي التونسي.
في الأثناء، فان الورش الاقتصادية التي اطلقها الرئيس سعيد هي، في جانب منها، مضادة للوصفات الاقتصادية الليبرالية التي يحبذها صندوق النقد كما المقرضين الدوليين الآخرين. وللمثال، في 19 ايار/ مايو الماضي صدر النظام الاساسي لشركات هي من اشكال التعاونيات. وتهدف هذه الكيانات إلى ايجاد حل للبطالة المرتفعة والتي كانت نسبتها 18% العام الماضي وزادت نسبياً منذ ذلك الحين. وتعتزم الحكومة انشاء نظام قانوني خاص لتشجيع المبادرات الجماعية ذات المنفعة الاجتماعية لا سيما في القطاع الزراعي. رغم ذلك، فان الاقتصاديين اليساريين والليبراليين لا يرون في ذلك إلا وهماً، فالشركات التعاونية ليست بديلاً عن السياسات التنموية العامة.
الاعتماد على سيولة البنك المركزي
لمواجهة الأوضاع الصعبة تعتمد الحكومة على الاقتراض الداخلي وعلى سيولة يوفرها البنك المركزي الذي أعلن في آذار/ مارس الماضي ان لديه احتياطيات من النقد الأجنبي تبلغ نحو 8 مليارات دولار. وتتشكل تلك الاحتياطات بشكل أساسي من عائدات الصادرات وتحويلات العمالة التونسية في الخارج ومن عائدات السياحة، بالاضافة الى بعض القروض غير المستخدمة. لكن ذلك لا يخفي حقيقة أن البلاد تعاني من عجوزات في ميزان المدفوعات والميزان التجاري. عجوزات تضع تونس ضمن قائمة بلدان ذات جدارة ائتمانية ضعيفة جداً تجعلها قريبة من حد شبح عدم تسديد ديونها الخارجية.