خالد العزي

صراع الإخوة - الأعداء على الأراضي الأوكرانيّة

22 حزيران 2022

02 : 06

الأوكران يدفعون "ضريبة الدم" في أوروبا (أ ف ب)

نشأ جدار في السنوات الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا وسط أجزاء من مساحة تاريخية وروحية وثقافية وحضارية واحدة ومشتركة. إنها بلا شك محنة مشتركة كبيرة، بل مأساة لأطماع إمبراطورية.

بادئ ذي بدء، ما يجري هو نتاج لكثير من الأخطاء التراكمية التي ارتكبت في فترات مختلفة، وهو أيضاً نتيجة العمل الهادف الحثيث لتلك القوى الساعية دائماً إلى تقويض هذه الوحدة الحضارية والتاريخية والثقافية.

لكن الحرب الأوكرانية لا يُمكن وصفها بأنّها تصحيح أخطاء تاريخية بل هي إبادة، لأنّ اتفاقية يالطا أنهت هذه المغامرات، وأعقبتها اتفاقية دول السلاف الثلاثة العام 1991 التي أنهت وجود الاتحاد السوفياتي لتأسيس مستقبل جديد.

هذه الحرب الأخيرة هي حرب انتقامية من التاريخ والثقافة والحجر والكيان، عبر تدمير المدن الأوكرانية وتحطيم الثقافة والقيم الحضارية لكل المراكز القيّمة في الجبهات القتالية (دور عبادة أثرية، ومراكز ثقافية ومسارح وعمارة قديمة وجسور)... وحرب ضدّ الحضارة والثقافة الأوكرانيتَيْن والخصائص الكيانية التي تُشير إلى وجود التاريخ القديم.

المشكلة هي لدى روسيا في التربية ونظرتها للآخرين كونها إمبراطورية ذات تاريخ عريق. الوجود الأوكراني قديم، ومعه نشأت أوّل دولة عرفت بـ"كييفسك" روس، "كييف الروسية"، والتي عاصمتها كييف.

التاريخ القديم والحديث يدلّ على وجود أوكرانيا، روسيا لم تستطع لعب أي دور من دونها. وحتى الثورة البلشفية اعتمد نجاحها على المثلث الحيوي (موسكو وسان بطرسبورغ وكييف) صنّاع الثورة الشيوعية، فانحلال الاتحاد السوفياتي حصل برغبة كييف وموسكو... وساهمت بصنع التاريخ الجديد في بيلاروسيا بتوافق ثلاثي. لكن ابتعاد أوكرانيا عن روسيا العام 2014 أحبط توجهات موسكو الإمبراطورية في بناء الاتحاد الأوراسي. حاولت روسيا فرض نفسها قطباً ندياً للولايات المتحدة بالتلاعب بالنظام العالمي من خلال احتلال أوكرانيا بعملية خاصة، وليس حرباً ضدّ كييف... عملية خاطفة تفرض أمراً واقعاً عبر ابتلاع أوكرانيا وقضمها بسرعة. لم تستطع روسيا هضم التغيير الذي يحدث إلى جانبها من قبل دولة خرجت عن طاعتها، وبدأت بالدخول في النظام العالمي الجديد على الرغم من الأخطاء الكبيرة المرتكبة في كييف، التي تسلك خطاً مغايراً لديكتاتورية موسكو ونظامها الأحادي، ما يُعاكس الرأي العام الروسي.

فالآلة الإعلامية الروسية الدعائية شنّت حملة كبيرة ضدّ أوكرانيا، مدّعيةً أن التطرّف يُسيطر عليها وأنها أصبحت مختطفة من المتطرّفين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مجرّد دمية يتمّ التلاعب بها، وتتناسى موسكو أن زيلينسكي الذي لا تتجرّأ على لفظ اسمه فاز بانتخابات ديموقراطية في ظلّ معارضة شديدة، لم تعرفها موسكو، التي تواجه معارضيها بالحبس أو القتل أو الابعاد.

التطرّف القومي الروسي الذي لا يعترف بالآخرين وينظر إليهم نظرة دونية، دفع الأوكران إلى "ردّة الفعل"، كما قانون نيوتن الفيزيائي بأنّ "الفعل يُساهم بردّة الفعل"، ما حدا بالشعب الأوكراني على الالتفاف حول قيادتهم والتمسّك بحضارتهم وقوميّتهم ولغتهم ومحاربة الغزو الروسي، الذي تلقى النكسات المتكرّرة التي أفشلت خطّته بالسيطرة على المناطق الشرقية والجنوبية لأوكرانيا.

إن اللعب بالخريطة العالمية بحجة القانون الحالي لم يعد يُناسب موسكو، فهناك أراض منذ العام 1945 وضعت تحت سيادة روسيا، والدول لم تُطالب بها لأنها التزمت القانون الدولي الجديد الذي فرض الحدود الحالية، ومن أهم المناطق منطقة كالينينغراد التي احتلّها السوفيات من ألمانيا ولا تربطها أي حدود مع روسيا، وانّما مع بولندا وليتوانيا وترتبط بروسيا بالجو والبحر. وجزر الكوريل اليابانية الأربع التي احتلّها الاتحاد السوفياتي من اليابان ولا تزال القضية معلّقة بين الدولتَيْن لأنّهما لم يتوصّلا إلى عقد إتفاق سلام بينهما، إذ لا تزال اليابان تُطالب بحقها بالسيادة على الجزر.

بالإضافة إلى محافظة كاريليا الفنلندية التي احتلّتها روسيا من فنلندا واقتطعتها منها، ولا تزال تحت سيطرتها، عكس أوكرانيا التي عاشت مع الدولة الروسية جنباً إلى جنب واعتنقا الديانة المسيحية الأرثوذكسية معاً منذ العام 1034، فمِن حق هذه الدول المطالبة بعودة أراضيهم وتحريرها من الاحتلال الروسي.

إن مفهوم القوة لا يُعطي لروسيا الحق بخرق القانون الدولي وتغيير الخريطة العالمية باعتبار أن أوكرانيا وديعة لدى الطموحات الروسية من أجل السيطرة والغزو، انطلاقاً من مبدأ إفراغ المنطقة من سكانها وتهديم ثقافتها طمعاً بالأراضي، وتوسيع السيطرة على المرافئ للتحكّم بسلة الغذاء العالمية، كما الحال أيضاً مع الطاقة.


MISS 3