إيمي ماكينون

سقوط ديمتري مدفيديف المدوّي

28 حزيران 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 05

بوتين ومدفيديف في موسكو
في صيف العام 2010، بدأ الرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيديف جولة في منطقة "سيليكون فالي" الأميركية بحثاً عن مستثمرين وأفكار جديدة حول طريقة تحديث اقتصاد بلده الذي يبالغ في الاتكال على الموارد. زار الرئيس الشاب المعروف بحبّه للتكنولوجيا شركات "غوغل" و"آبل" و"تويتر"، في ما وصفه أحد مؤسّسي منصات مواقع التواصل الاجتماعي، بيز ستون، "واحداً من أكثر الأيام تميّزاً في تاريخ تويتر".غرّد مدفيديف للمرة الأولى على الإطلاق من هناك، فكتب باللغة الروسية عبارة فيها خطأ مطبعي: "مرحباً جميعاً، أصبحتُ على تويتر الآن وهذه هي رسالتي الأولى". اليوم، يميل مدفيديف إلى استخدام تويتر ومنصات أخرى على مواقع التواصل الاجتماعي لانتقاد المسؤولين الأميركيين والأوروبيين وإطلاق تهديدات مقنّعة بمهاجمة الولايات المتحدة ومسح أوكرانيا من خريطة العالم. وفي منشور على قناة "تلغرام" يوم الإثنين الماضي، قال مدفيديف إن الولايات المتحدة يجب أن تتوسل روسيا لاستئناف المفاوضات حول الحدّ من التسلح، فكتب: "فليهرعوا أو يعودوا زحفاً للمطالبة بذلك".

يقول المحللون إن الفئات التي يستهدفها مدفيديف تبقى محلية في معظمها، مع أنه يكتب تغريداته العدائية بلغات متنوعة، فهو يسعى إلى حماية نفسه وتحسين مستقبله السياسي فيما تتوسّع الاضطرابات المحلية بسبب غزو أوكرانيا وتتصاعد التوقعات حول صحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

في هذا السياق، يقول مارك جاليوتي، مسؤول بارز في "معهد رويال يونايتد للخدمات": "تسود مخاوف كثيرة وسط النخبة الحاكمة، وحتى وسط من يُعتبَرون تحت حماية بوتين. برأي البعض، يهدف موقفه إلى البقاء بعيداً عن الأضواء، لكنه يطرح نفسه كمسؤول مؤيّد لاستعمال القوة بنظر البعض الآخر. لكن تنجم هذه المواقف كلها عن شعور عام بأن الشتاء يقترب ولا أحد يعرف ما ستؤول إليه الأوضاع حينها".

في شهر تشرين الأول من السنة الماضية، قبل فترة قصيرة على بدء الحشد العسكري الروسي على طول الحدود مع أوكرانيا، نشر مدفيديف مقالة في الصحيفة الروسية "كوميرسانت"، وكانت تعجّ بنظريات المؤامرة وعبارات الازدراء بالقادة الأوكرانيين. وفي مقطع مليء بالأفكار المعادية للسامية، اتّهم مدفيديف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وهو يهودي، بأنه يدين بالفضل للنازيين.

أصبحت التهديدات بإشعال الوضع معياراً مألوفاً في تصريحات كبار المسؤولين الروس والمذيعين على التلفزيون الروسي الرسمي. لكن رغم الاعتياد على هذه المواقف، بدت تعليقات مدفيديف الذي اشتهر سابقاً باعتداله مفاجئة. تعكس نزعة الرئيس السابق إلى إطلاق مواقف غاضبة ضد الآلية الغربية تحوّل روسيا الواضح من جارة مزعجة إلى تهديد وجودي حقيقي على أوروبا، أو ربما أسوأ من ذلك.

تقول تاتيانا ستانوفايا، محللة سياسية روسية ومؤسِّسة المنظمة الاستشارية "آر بوليتيك": "يُعتبر هذا التحول من أكثر الجوانب غموضاً في السياسة المحلية الراهنة". يدرك مدفيديف طبيعة الأوساط المؤيدة لاستعمال القوة، لذا تهدف مواقفه الغاضبة على الأرجح إلى التكيّف مع المناخ السياسي الروسي الجديد الذي أصبح أكثر قومية وأقل تسامحاً مع المعارضين منذ غزو أوكرانيا في شهر شباط الماضي.

تضيف ستانوفايا: "لقد تغيرت روسيا بكل وضوح، وأصبح مدفيديف مضطراً لإثبات انتمائه إلى هذه النسخة الناشئة من روسيا".

تعرّض مدفيديف للازدراء من الليبراليين نظراً إلى استعداده لإرضاء بوتين، وينظر إليه المسؤولون الأقوياء في الاستخبارات الأمنية الروسية بعين الشبهة بسبب طريقة تعامله مع الولايات المتحدة. نتيجةً لذلك، أصبح الرئيس السابق أكثر عزلة في السنوات الأخيرة، فقد تعرّض حلفاؤه للاعتقال أو اضطروا للعيش في المنفى، فزاد اتكاله على سخاء بوتين.

برأي ستانوفايا، يُعتبر مدفيديف من أضعف الشخصيات في النخبة السياسية الروسية. في منشور على "تلغرام" هذا الشهر، حاول الرئيس السابق أن يتطرق إلى بعض الفرضيات المرتبطة بنزعته الشوفينية المستجدة، فكتب ما يلي: "يسألني الناس طوال الوقت عن السبب الذي يدفعني إلى كتابة منشورات قاسية لهذه الدرجة على "تلغرام". الجواب بسيط: أنا أكرههم. هم أوغاد وحثالة (كان يقصد أوكرانيا على الأرجح). وطالما أبقى على قيد الحياة، سأبذل قصارى جهدي لضمان اختفائهم من العالم".

عند تنصيب مدفيديف رئيساً لروسيا في العام 2008، بعد أول ولايتين رئاسيتَين لبوتين، جاء ليُجدد آمال الروس والغربيين بإمكانية تطبيق الإصلاحات. بدا مدفيديف مختلفاً جداً عن أسلافه. كان يبلغ حينها 42 عاماً فقط، ولم يكن من الأسماء التي لطّخها النظام السياسي السوفياتي، بل إنه تخرّج من كلية الحقوق قبل سنوات قليلة على سقوط جدار برلين. كان مدفيديف يدلي بتصريحات دقيقة، فينتقد "ضعف الديمقراطية" و"قلة كفاءة الاقتصاد" في روسيا، وبدا وكأنه يؤيد التفاؤل التكنولوجي الذي يجتاح العالم.

شعر الرئيس الأميركي المؤيد للإصلاحات، باراك أوباما، بهذا الاختلاف سريعاً وحاول "إعادة ضبط" العلاقات الأميركية الروسية، فسافر إلى موسكو خلال أول سنة من عهده وقال في خطاب التخرّج في كلية الاقتصاد الجديدة في موسكو، في العام 2009: "يمكننا أن نبني معاً عالماً يضمن حماية الناس وتوسيع الازدهار واستخدام قوتنا خدمةً للتقدم".

لكنّ الخصائص التي دفعت المسؤولين الغربيين إلى التفاؤل نشرت أجواء من السخرية والشكوك في الأوساط السياسية المحافِظة في روسيا. حتى أن إصرار مدفيديف على استخدام جهاز "آي باد" طوال الوقت منحه لقب iPedik الذي يجمع بين البادئة التي تشتهر بها شركة "آبل" وإهانة روسية معادية للمثليين. في العام 2011، تسرّب على الإنترنت فيديو يظهر فيه مدفيديف وهو يرقص على أغنية البوب الروسية الناجحة American Boy من التسعينات خلال حفل جامعي لِلَمّ شمل الطلاب، وسرعان ما تم تداوله على نطاق واسع. أكّد مدفيديف حينها على صحة الفيديو عبر التغريدة التالية: "كنا نستمتع بوقتنا في السنة الماضية خلال لقاء مع رفاقي من الجامعة".

سرعان ما اتّضح أن مدفيديف، رغم طبيعة خطاباته، ليس مجرّد تابع لبوتين الذي أشاد ظاهرياً بحدود الولاية الرئاسية التي يفرضها الدستور. حَكَم الرجلان البلد بأسلوب متناغم أو وفق "صيغة ثنائية الرأس"، كما ذكر السفير الأميركي في روسيا في وثيقة من العام 2010 عاد وسرّبها موقع "ويكيليكس" لاحقاً. ألمح مدفيديف في بعض المناسبات إلى احتمال ترشّحه لولاية رئاسية ثانية، لكنه تنحى سريعاً وسمح لبوتين بالعودة إلى الرئاسة، فأهان نفسه في خضم هذه العملية.

يقول يوجين رومير، مدير برنامج روسيا وأوراسيا في "مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي": "منذ ذلك الحين، تراجعت مكانته كشخصية سياسية مستقلة".

إستفاد زعيم المعارضة الروسية، ألكسي نافالني، من موجة الازدراء التي استهدفت مدفيديف، فأصبح هذا الأخير محور تحقيق واسع ومحرج جداً في قضايا مكافحة الفساد في العام 2017، ما دفع عشرات آلاف الروس إلى النزول إلى الشوارع في أنحاء البلد بسبب مظاهر الفساد الكامنة وراء أسلوب حياة مدفيديف الفاخرة. لوّح المراهقون الروس، الذين لم يعرفوا إلا بوتين كحاكم لبلدهم، بنماذج على شكل بطة مطاطية صفراء اللون استعملوها كرمز للاحتجاج، في إشارة إلى قنّ البط في منزل مدفيديف الصيفي الفخم الذي كشف عنه تحقيق نافالني ويشمل أيضاً واجهة بحرية ومنحدرات تزلج وثلاثة مهابط للطائرات.

في العام 2020، استقال مدفيديف فجأةً من رئاسة الحكومة بعد تراجع نِسَب تأييده بدرجة هائلة وفق المعايير الروسية، فاقتصرت على 38%. لكن لم ينسحب الرئيس السابق من الحياة السياسية رغم تدهور وضعه، بل عُيّن في منصب جديد كنائب رئيس مجلس الأمن الروسي، مع أن تفاصيل هذا الدور لم تتّضح بالكامل بعد. تعليقاً على الموضوع، يقول جاليوتي: "هو يشغل منصباً لا أحد يعرف تفاصيله".

يثبت صمود مدفيديف، رغم انهيار شعبيته، مدى ولاء بوتين لجنوده الخانعين. برأي جاليوتي، لا يحبذ بوتين التغيير، ولا يحب التبدلات الجذرية، ولا يريد أن يخرج أحد من أوساطه المقرّبة.

أدت التوقعات الوافرة حول صحة بوتين إلى تأجيج المقالات في الصحف الغربية، فيما يتابع الرئيس الروسي الابتعاد عن الحشود، حتى أنه يتجنب كبار المسؤولين في أوساطه الخاصة منذ بدء أزمة كورونا قبل سنتين. تنبّه الكثيرون إلى هذه الشائعات في موسكو أيضاً. قد يكون وضع بوتين الصحي سرّاً عميقاً، لكنه يؤكد على رحيل رب عمل مدفيديف القديم سياسياً وجسدياً في أحد الأيام. في النهاية، تختصر ستانوفايا مواقف مدفيديف قائلة: "هو يحارب لضمان مكانة مستقبلية له في روسيا بعد عهد بوتين".


MISS 3