عيسى مخلوف

هل انتهى الفنّ فعلاً؟

9 تموز 2022

02 : 01

في موازاة الحديث عن الحروب وتقلُّبات السياسات الدوليّة، والاحتباس الحراري، والتلوّث والأوبئة والأمراض، هناك من لا يزال يلتفت إلى الواقع الثقافي الذي شكّلَ لفترة طويلة مرآة تَقَدُّم المجتمعات أو تخلُّفها. ضمن هذا الأفق، صدر في السنوات الماضية عدد من الكتب التي تتطرّق إلى هذا الموضوع من زوايا مختلفة، وإلى ما آلت إليه الثقافة والآداب والفنون بصورة عامّة. أحد الإصدارات المهمّة في هذا الشأن كتاب بعنوان "انتهى الفنّ" (منشورات "غاليمار") للفيلسوف الفرنسي إيف مِيشُو الذي كان مديراً لـ"معهد الفنون الجميلة" في باريس، ورئيس تحرير "دفاتر المتحف الوطني للفنّ الحديث" في "مركز جورج بومبيدو الثقافي".

بالنسبة إلى ميشو، انتهى الفنّ منذ قرابة ثلاثين عاماً، وخصوصاً مع نهاية القرن العشرين، مع ظاهرة العولمة والدَّور المَنوط بالمال. وهذا الدور هو الذي يُسيِّر الفنّ بأشكاله الجديدة. كأن يصبح الفنّ أداة تسلية وتهريج، أو عنصراً تُزَيِّن به دُور الأزياء الباذخة الثياب والحقائب. هكذا تتغيّر وظيفة الفنّ، ولا يعود نافذةً مفتوحة على الدهشة والارتقاء وتَحَسُّس أشياء مهمّة ما كنّا لندركها لولاه. في موازاة ذلك، تَغيَّر تعاطي الناس مع الفنون. فهم- ما عدا استثناءات قليلة- إمّا يغرقون في صُوَر افتراضيّة ضخمة باتت تغطّي مساحات شاسعة من صالات عدد متزايد من المتاحف، أو يقصدون أعمالاً فنّيّة محدّدة لكنهم ينظرون إليها من وراء عدسات آلات التصوير أو الهواتف المحمولة، وفي الوقت نفسه يلتقطون، بطريقة آليّة وبشكل محموم، صوراً لأنفسهم يستعملونها لاحقاً في وسائل التواصل الاجتماعي.

لقد شهدت نهاية القرن الثامن عشر ولادة الحساسية الرومنطيقيّة، وهي تختلف عن التوجّهات الكلاسيكيّة. مع بداية عصر السياحة الثقافيّة الذي تُستعمَل فيه الإمكانات التكنولوجيّة والرقميّة، طرأ تَغَيُّر على حساسية المتلقّي نفسه، وسادَ، على مستوى واسع، فنّ التصميم والديكور والزينة وموسيقى التسلية.

انتهى الفنّ الكبير، بحسب المؤلِّف إيف مِيشو، واستُعيضَ عنه بتجارب "المُتَع السريعة"، على غرار وجبات الطعام السريعة. نقرة واحدة على هاتفك تحملك إلى أقاصي الدنيا وإلى آخر صرعات الموسيقى والفنّ والموضة في العالم. في هذا السياق، أصبح الجزء الأكبر من تجهيزات الفنّ المعاصر جزءاً من "ديكور للوجود"، ولا مَن يبالي! هكذا باتت الصناعة الثقافيّة تنحو أكثر نحو الترفيه والتسلية ولَفْت الانتباه فيما تَنقُص الأعمال الفنّيّة، بنسبة كبيرة منها، روح الشعر وما تولّده في ذات المتلقّي، وما يمكن أن تفتحه أيضاً من آفاق غير معتادة أمام العقل والحواسّ.

صارت قيمة الفنّ اليوم ترتكز على مردوديّته المادّيّة، وتوظيفه من أجل غايات محدّدة، والقدرة على تسليع كلّ شيء، وإلاّ فما الذي يبرّر بيع موزة مُثبَتة على الجدار بشريط لاصق، في معرض "آرت بازل" في مدينة ميامي بمبلغ 120 ألف دولار (ولقد تدافع عدد كبير من المتحمّسين لالتقاط صورة تذكاريّة برفقتها)؟ وما معنى أن تصل قيمة منحوتة أنجزها الفنّان الأميركي جيف كونز من البلاستيك المنفوخ، وتمثّل كلباً ورديّ اللون، خمسين مليون دولار، إضافة إلى خنازيره المصنوعة من البورسلين وتباع هي أيضاً بملايين الدولارات؟ السؤال نفسه يُطرح بالنسبة إلى الأعمال البلاستيكيّة للفنان الياباني تاكاشي موراكامي، وأعمال أنيش كابور، البريطاني من أصل هندي، والذي فتح له قصر فرساي حدائقه ليعرض منحوتته الشهيرة: "فرج الملكة"... الفنانون الذين أتينا على ذكرهم هم اليوم من أشهر فنّاني العالم وأغلاهم ثمناً.

ما ينطبق على الجزء الأهمّ من الفنون التشكيليّة المعاصرة إنّما ينطبق أيضاً على المجالات الإبداعيّة الأُخرى، أدباً وفنّاً، وعلى الذهنيّة التي تتحكّم بالفعل الثقافي وتحرفه عن معناه. لقد أمضَت البشريّة ملايين السنين لتنتقل من الثقافة الشفهيّة إلى الثقافة المكتوبة، وها هي اليوم تعود إلى عهدها الأوّل. واستغرقَ الانتقال من مرحلة النقد الموضوعي إلى مرحلة الإشاعة بضعة عقود فقط. في غياب النقد، يكفي أن نقول إنّ هذا الشيء- أيّ شيء على الإطلاق- هو قطعة فنّيّة، حتى يصبح قطعة فنّيّة. ويكفي أن نقول إنّ هذه الكتابة، ومهما كان نوعها وقيمتها، هي كتابة أدبيّة، لتصبح أدباً. ثمّ نقول إنّه فنّ عظيم وأدب خارق، فيصبح فنّاً عظيماً وأدباً خارقاً. تُرى، من الذي يتجرّأ اليوم على مخالفة ما تُروِّجه الإشاعة والرأي السائد؟

إنّ قيَم الفنّ والثقافة تتغيَّر باستمرار، وطالما تغيَّرت عبر العصور. ما كان يُدهِش بالأمس فقدَ معناه اليوم، لكن، قد يحدث غداً ما لا نتوقّعه الآن!


MISS 3