عيسى مخلوف

الإقتراب من أسرار بداية الكون

16 تموز 2022

02 : 01

منذ أكثر من ألفين وستمئة سنة، عبَّرت الشاعرة اليونانيّة سافو عن رغبتها في "ملامسة السماء"، وقد بدأ الحلم يتحقّق مع ما كشفته صور المقراب الفضائي "هابل"، خلال السنوات الماضية، وما يكشفه الآن "جيمس ويب" مع صور للسديم ولمجرّات لم ترَها العين أبداً من قبل. الحلم الذي يتجسّد أمام عيوننا اليوم رافق الإنسان على مرّ العصور، وهو يعكس حاجة دفينة إلى اختراق المجهول، بل وبلوغ السماء البعيدة، كما حلمَ أيضاً إيكار في الأسطورة.

الصور التي نُشرَت مطلع هذا الأسبوع، وتُعَدّ حدثاً علمياً كبيراً ولحظة مفصليّة في علم الفيزياء والفلك، قرَّبتنا من تكَوُّن المجرّات الأولى، كما أثارت ردود أفعال واسعة في العالم أجمع. ثمّة ردود جاءت من العالم العربي والإسلامي، وطالعنا قسم منها في وسائل التواصل الاجتماعي، نظر أصحابها إلى ما حدث وكأنه اعتداء على قناعاتهم ومفاهيمهم الثابتة المتوارثة، وكشفت ما يمكن أن ينتج عن الجهل والأمّيّة والفهم الخاطئ للدين. هؤلاء لم يتسنّ لهم أصلاً أن ينفتحوا على العلم والمعرفة ليلحظوا أين أصبح العالم على هذا المستوى. تقتضي الإشارة هنا- وللتذكير فقط- إلى أنّ أنظمة ما بعد الاستقلال منعت، طوال أكثر من أربعة عقود، وبعضها لا يزال يمنع حتّى الآن، تدريس العلوم الإنسانيّة، والتاريخ والأنتروبولوجيا، أي كلّ ما يحثّ على البحث وتحكيم العقل والفكر، وذلك مقابل تشجيع مناهج تربويّة تنتمي إلى عصور بائدة، تُعطّل العقل وتقتل الحسّ النقدي قبل أن يولد، لتترك الخرافة تعشّش في ذهنيّة مجتمعات بأكملها. هكذا وقفت هذه الأنظمة حائلاً دون ولادة فكر تنويري، وشجّعت على الانغلاق والتعصّب، ومهّدت الطريق نحو التطرّف والحروب الأهليّة. في هذا السياق، أصبح كلّ من يتحدّث بصورة موضوعيّة متَّهماً بالعمالة أو الكفر، ومهدّداً بالتهميش أو التهجير أو القتل.

ملايين البشر ما زالوا يصدّقون أنّ حواء خرجت من ضلع آدم. وما زالوا، على المستوى العلمي، في زمن غير هذا الزمن، وفي كُتب سابقة لنشوء الكتب: "حدّثنا يحيى بن جعفر عن مَعمَر، عن همّام، عن أبي هريرة، فقال: "خلق الله آدم على صورته وطوله ستّون ذراعاً"... إنه العيش في مرحلة ما قبل العلم وما سبق أن توصّلت إليه الثقافة العربيّة في عصرها الذهبي. مرحلة تُغيِّب منجزات النهضة الأوروبية التي بدأ معها عصر جديد، وتغفل عن القفزة العلميّة الهائلة التي أخذت تتحقّق منذ القرن السادس عشر، ومنها أطروحات عالمَي الفلك كوبرنيك وغاليليه اللذين تغيّرت معهما النظرة للإنسان والكون بعدما صاغا نظريّةَ مركزيّة الشمس وأكّدا، وفق أسس فيزيائية، أنّ الأرض هي التي تدور حول الشمس. هذه الأطروحة التي كانت تتناقض مع موقف الكنيسة الكاثوليكيّة جعلت الكنيسة تتّهم غاليليه بالهرطقة وتحكم عليه بالسجن. وهذا الردّ الذي نرى ما يوازيه في العالم العربي والإسلامي حتى الآن يضعنا أمام زمنين: زمن ديني وزمن علمي. زمن ديني ذكوري يتحدّث عن حوّاء التي خرجت من ضلع آدم، ويرى أنّ الإنسان هو مركز الكون، وزمن علمي يُرينا، عبر المسبار الفضائي، كيف تولد النجوم وتموت، ويُعلمنا بأنّ الفضاء اللانهائي مسكون بشموس لا تحصى، وبإمكانية وجود كواكب لا تخلو من حياة. وقد يتوصّل الإنسان يوماً- إذا لم يكن قضى على نفسه قبل ذلك- إلى الكشف عن أسرار يبدو الحديث عنها، في هذه اللحظة، ضرباً من الخيال. العالم العربي الآن خارج هذا المسار العلمي كلّه، ومشكلته لا تكمن فقط في التمسّك الأعمى بالماضي، بل أيضاً في تجريد هذا الماضي من ملامحه المستقبليّة التي جسّدها، ذات يوم، ثالوث العلم والفكر والجماليات.

يدفعنا مشروع جيمس ويب إلى تساؤلات كثيرة لا تتوقّف عند العالم العربي والإسلامي فحسب، وإنّما تطال العالم أجمع. فالاقتراب من أسرار بداية العالم يتزامن مع مرحلة دقيقة من تاريخ البشريّة المهدَّدة، أكثر من أيّ وقت مضى، بالفناء، أي بنهاية هذا الإنسان المُبتكِر الخلاّق، من جهة، والذي يجسّد، من جهة ثانية، أقصى حدود العنف ضمن حضارات هي مزيج من إبداع وإراقة دماء. المعضلة الكبرى أنّ هذا الكائن الغريب لا يزال يتحرّك، منذ ألوف السنين، عند الحدّ الفاصل بين التقدُّم والتوحُّش، بجَشَعه وحروبه وغزواته، وأنّ النزعة الإنسانيّة المُصابة يوميّاً بألف سهم لم تواكب الثورة العلميّة والتطوُّر التقني والتكنولوجي، وهذا ما عبَّر عنه عالِم الفيزياء الأكثر تأثيراً في القرن العشرين، ألبرت أينشتاين، حين قال: "لقد أصبح من الواضح اليوم، للأسف، أنّ تقدّمنا التكنولوجي تَجاوزَ إنسانيّتنا".