أندريه كوليسيكوف

الروس أسرى بوتين

19 تموز 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

روس أمام متجر مقفل | موسكو ، حزيران 2022
هل تخوض روسيا الحرب فعلاً؟ يصعب أحياناً إيجاد دليل على ذلك عند زيارة موسكو أو حتى الأقاليم الروسية هذا الصيف. يعيش الناس حياتهم بشكلٍ طبيعي، ويتابع الاقتصاد حركته، وما من نقص في السلع الاستهلاكية. حتى الآن، تعطي "الواردات الموازية" (النظام الذي يلجأ إليه المستوردون الروس للتحايل على العقوبات الغربية عبر استعمال بلدان ثالثة)، النتيجة المنشودة. وحده التضخم يطرح مشكلة مستعصية حتى اليوم، إذ يفوق مستواه السنوي في الوقت الراهن عتبة 16%. كذلك، لا يبدو جزء كبير من المواطنين منزعجاً مما يحصل على حدود البلد الغربية، أو هذا ما يقوله الناس على الأقل عند طرح هذا السؤال عليهم. يسهل أن نفترض أن الروس يخشون التعبير عن رأيهم بكل بساطة. لكن تحمل نتائج الاستطلاعات التي أجراها مركز "ليفادا" المستقل مؤشراً مفيداً على وجهة المزاج العام في البلد. يبدو أن عدداً كبيراً من الروس اليوم يشعر بالتفاؤل بشأن مستقبله الجماعي، مع أن البلد تورّط في مشروع إمبريالي واسع في شرق أوكرانيا، وسبق وأطلق هذا المشروع موجة غير مسبوقة من اللاجئين وأمعن في عزل روسيا.

فيما تقترب الحرب من إنهاء شهرها الخامس، يوحي الوضع القائم في روسيا ببدء تحوّل معيّن على مستوى الحكومة وعامة السكان. أوضح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً أن خطط روسيا في أوكرانيا ستستمر بغض النظر عن العواقب الاقتصادية، وتنذر جميع المؤشرات بأن تلك العواقب ستكون هائلة. بالنسبة إلى الروس العاديين، يعني هذا الوضع أن "العملية الخاصة" لن تنتهي في أي وقت قريب، بل يجب أن يدعموا روسيا الجديدة التي تفرض عليهم أن يتصرفوا كأشخاص وطنيين ويؤيدوا استعراضات بوتين ولا يشغلوا أنفسهم بالمصاعب المؤقتة. في روسيا الجديدة، سيكون الجميع بخير طالما لا يُجبَرون على التوجه إلى الخنادق.

كل ما يستطيع الرئيس الروسي تقديمه لداعميه اليوم هو توسيع أراضي الإمبراطورية الغابرة وإعادة بنائها. يتماشى هذا الهدف مع خط إيديولوجي يتبناه بوتين منذ وقتٍ طويل، فقد أصرّ الرئيس دوماً على وجود "عالم روسي" يشمل أوكرانيا من وجهة نظره ولا يضمّ أي كيان منفصل عن روسيا. زادت سهولة هذا المشروع بفضل تدخّل مفكرين تابعين لبوتين، من أمثال ميخائيل بيوتروفسكي، مدير "متحف هيرميتاج" في "سانت بطرسبرغ"، فهو قال يوماً: "نحن جميعاً إمبرياليون ونؤيد القوة العسكرية" و"روسيا تؤكد على قوتها خلال الحروب".

بوتين لا يشبه القيصر بطرس الأكبر، لكن لطالما كان الغزو الإمبريالي طريقــــة فاعلة لزيادة الدعم الذي يحظى به. في العام 2014، أدى ضم شبه جزيرة القرم إلى تعويم عهده الرئاسي ومَنَحه دعماً هائلاً دام لسنوات عدة. لكن في العام 2018، رفع بوتين سن التقاعد وبدأت نسبة تأييده تستقر. وبحلول أيلول 2021، كشف استطلاع أجراه مركز "ليفادا" أن 46% من الروس فقط كانوا مستعدين لإعادة انتخابه. لم يسترجع بوتين أغلبية قوية إلا بعد غزو روسيا لأوكرانيا. بحلول أيار 2022، زادت نسبة الروس المستعدين لإعادة بوتين إلى السلطة وبلغت 72%، وهو أعلى رقم يسجّله على الإطلاق. قد تعكس هذه الأرقام نزعة متوسّعة وسط الروس العاديين إلى التمسك بالرأي الشائع (أي الوجهة التي يُحددها الكرملين)، لكن تشير هذه النتائج في مطلق الأحوال إلى واقع سياسي موجود.

لماذا يأخذ نظام بوتين عناء تنظيم الانتخابات على مستويات مختلفة إذاً، بما في ذلك التصويت الإقليمي المقرّر في أجزاء عدة من روسيا في شهر أيلول المقبل؟ في نظام استبدادي وخاضع لسيطرة شاملة ومُوجّه من زعيم واحد، تبدو هذه الاستحقاقات غير نافعة بشكل عام. لكن يحتاج هذا النظام المبني على سلطة زعيم واحد إلى إثبات دعم الأغلبية له أمام أنصاره دوماً وعلى جميع المستويات، بدءاً من الانتخابات البلدية وصولاً إلى الاستحقاق الرئاسي. لهذا السبب، تبرز الحاجة إلى إجراء انتخابات خارج روسيا أيضاً. بالإضافة إلى تنظيم انتخابات محلية نموذجية، من المنطقي إذاً أن تحصل استفتاءات في المناطق المحتلّة من أوكرانيا، مثل "خيرسون" (كما حصل في شبه جزيرة القرم في العام 2014)، لمعرفة آراء الناس حول الانضمام إلى روسيا. تكون نتائج هذه الاستفتاءات مُحدّدة مسبقاً لكنها تمنح النظام شرعية ظاهرية شبه كاملة.

كان قرار بوتين بغزو أوكرانيا جنونياً على الأرجح، لكن تبيّن أنه نهج صائب له شخصياً للتمسك بالسلطة، وزيادة شعبيته، وإثبات نفسه كزعيم لا غنى عنه، حتى الآن على الأقل. لا أحد في أوساط النخبة الحاكمة يستطيع أن يزعم أنّ بوتين لا يسيطر على الوضع. بغض النظر عن أضرار الحرب على المستوى الاقتصادي، زاد نفوذ بوتين الشخصي بكل وضوح أمام الشعب الروسي وتحسّنت مكانة روسيا في العالم. بدل نشوء معركة على هوية خَلَفه المستقبلي، يقتصر الوضع اليوم على منافسة بين المرشّحين الحسودين الأوفر حظاً.

لا يشكّل توسيع نطاق الإمبراطورية المنشودة وفرض الخطاب الإمبريالي النهج الوحيد الذي يستطيع الكرملين اللجوء إليه لإلهاء الروس عن الوقائع التي أصبحت مضطربة اليوم أكثر من أي وقت مضى. حين يدرك الناس العاديون أن سبل عيشهم باتت مُهددة، سيحتاج النظام إلى من يلومه على الوضع الاقتصادي المزري وسيحاول تحويل الأنظار عن الواقع عبر تمثيليات مثل مطاردة كبار رجال الأعمال بعدما أصبحوا على خلاف مع النظام، أو فضح ممارسات الفساد وسط شخصيات مرموقة وإلهاء الرأي العام المقموع بهذه القضايا. سبق وبدأت هذه الخطوات منذ الآن أصلاً. في 30 حزيران، اعتُقِل فلاديمير ماو، عميد أكاديمية الاقتصاد الوطني، على خلفية تُهَم خطيرة باختلاس أموال الجامعة، علماً أنه خبير اقتصادي ليبرالي يتمتع بسمعة ممتازة. في الوقت نفسه، يعمل النظام على تحديد عناصر من "الطابور الخامس" والتشهير بهم: يشمل هذا المعسكر ناشطين سياسيين من أمثال فلاديمير كارا مورزا وإيليا ياشين اللذين يقبعان في السجن بتهمة تشويه سمعة الجيش، ونائب رئيس البلدية ألكسي غورينوف الذي حُكِم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات بتهمة "نشر معلومات كاذبة عن الجيش".

لكنّ هذه التكتيكات كلها لن تعيل المواطنين الروس العاديين. لهذا السبب، يجب أن تبتكر الحكومة طرقاً أخرى لإعانة أكثر الفئات تضرراً من السكان. قد يتم استدعاء المحرومين أو العاطلين عن العمل أو اليائسين لتكليفهم باستعمار أراضٍ جديدة. يُستعمَل هذا المنطق في الوقت الراهن لتجنيد متطوعين في الجيش ومرتزقة مستعدين للقتال في أوكرانيا، رغم افتقارهم إلى التدريب الكافي، مقابل رواتب وافرة. من خلال إخضاع الفقراء لسيطرة الدولة، يستطيع بوتين أن يوسّع نطاق نفوذه.




روس ينتظرون أمام صراف آلي في سانت بطرسبرغ | روسيا، 25 شباط 2022.





لكن لا تقتصر المنافع التي حصدها بوتين من "العملية الخاصة" على ترسيخ سلطته، بل إنها منحته أيضاً شعباً مُخدّراً بدرجة متزايدة. لقد سئم الروس من الحرب ومن الأخبار السيئة عموماً، وهذا ما يفسّر لامبالاتهم غير المألوفة إزاء نقل زعيم المعارضة المسجون، ألكسي نافالني، إلى معسكر اعتقال آخر قد يكون أكثر خطورة على صحته أو حتى حياته. يفسّر هذا العامل أيضاً تراجع الاهتمام بأحدث التحقيقات التي قام بها فريق نافالني وأثبتت المخالفات الهائلة التي ارتكبها الرئيس التنفيذي لشركة "غازبروم"، ألكسي ميلر، الذي أُطلِق سراحه في شهر حزيران. يذكر تقرير المحققين أن ميلر وأعوانه تورطوا في خطط فساد واسعة النطاق سمحت لرئيس "غازبروم" بالاغتناء على حساب الشركة. منذ بضع سنوات، كان هذا النوع من المعلومات ليبقى في طليعة الأحاديث الروسية طوال أسابيع، لكن تتجه الأنظار اليوم إلى مكان آخر. حتى أن تغطية التحقيق تراجعت بكل وضوح نتيجة إسكات وسائل الإعلام المستقلة في روسيا منذ بدء الحرب.

من الطبيعي أن ينشغل الروس اليوم بأوكرانيا وحلف الناتو، وقد أوصلتهم هذه الأحداث إلى حالة من التخدير العاطفي: ما أهمية سرقة ملايين الدولارات مقارنةً بخطر اندلاع حرب نووية؟ وإلى جانب الشعور بالإرهاق، فَقَد الكثيرون الأمل بإحداث أي تغيير وهم يفضّلون أن يتخذ بوتين القرارات عنهم ويفكر بدلاً منهم أيضاً. كشف تحقيق ميلر مخالفات بقيمة مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب، لكن تُصرَف تلك الأموال نفسها اليوم على الحرب. لا يهتم الناس بكل ما يحصل بل يريدون أن يعيشوا بهدوء. هم يعرفون أصلاً أن كبار الشخصيات تسرق الأموال ولا يعطون الأولوية لكبح السرقات بما أنهم يخوضون الحرب اليوم ضد العالم أجمع. تثبت مشاكل نافالني مجدداً أن أي احتجاج على الوضع غير نافع ومن الأفضل تأييد رأي الأغلبية دوماً.

بعد مرور خمسة أشهر على بدء الحرب، يتابع الروس حياتهم بشكلٍ طبيعي. ينطبق ذلك على مناصري بوتين وخصومه في آن. لقد بدأت عملية التكيّف مع الظروف المستجدة لأن جميع الأطراف تحتاج إلى الصمود مادياً ونفسياً. أصبحت الحرب الحالة الطبيعية السيئة الجديدة ويثبت هذا الوضع تفوّق بوتين على الجميع مجدداً، بما في ذلك شعبه.


MISS 3