إستراتيجية أميركية ضعيفة في المحيطَين الهادئ والهندي

11 : 03

تريد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بناء نظام مبني على القواعد والديموقراطية في منطقة المحيط الهادئ والهندي، لكن يبدو أنها لا تعرف كيفية تحقيق هذا الهدف. إذا لم تجد الحل قريباً ودعّمت سياستها الآسيوية بالثقل الاستراتيجي، ستزيد صعوبة كبح العدائية الصينية. في ظل تحوّل المحور الجيوسياسي العالمي نحو آسيا، أصبح النظام التعددي المبني على القواعد في منطقة المحيط الهادئ والهندي أهم من أي وقت مضى، حتى بالنسبة إلى مكانة الولايات المتحدة في العالم. كان إيجابياً إذاً أن يبدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منذ سنتين، بتسويق رؤية "حرّة ومنفتحة" عن تلك المنطقة، ما يعني أن تتّسم بتدفقات تجارية لامحدودة، وحرية الملاحة، واحترام حكم القانون والسيادة الوطنية، وحماية الحدود القائمة. لكن بدل تحقيق هذه الرؤية، سمحت الولايات المتحدة باستمرار التوسّع الصيني في آسيا من دون رادع. كان هذا الفشل مدوياً.

كما حصل عند تحوّل تركيز الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما نحو محور آسيا، لم يُترجَم مفهوم الحرية والانفتاح في منطقة المحيطين الهادئ والهندي إلى مقاربة سياسية واضحة لها ثقل استراتيجي حقيقي. بل أصرّت الولايات المتحدة على عدم تحريك أي ساكن فيما خرقت الصين القواعد والاتفاقيات لتوسيع سيطرتها على الأراضي الاستراتيجية، لا سيما بحر الصين الجنوبي، حيث بَنَت جزراً اصطناعية وأعطتها طابعاً عسكرياً. أعادت الصين رسم الخريطة الجيوسياسية في ذلك الممر التجاري البحري المحوري من دون تكبّد أي تكاليف دولية.

لطالما عبّرت الولايات المتحدة عن قلقها من نشاطات الصين، بما في ذلك تدخلها في عمليات النفط والغاز داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة في فيتنام. عملياً، كثّفت الولايات المتحدة عملياتها الرامية إلى حماية حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، والتزمت مع الأنظمة الديموقراطية الثلاثة الكبرى في المنطقة (أستراليا، الهند، اليابان) بعقد "استشارات رباعية" لضمان حرية منطقة المحيطين الهادئ والهندي وانفتاحها وشموليتها. صحيح أن هذا التحالف الرباعي لا ينوي تشكيل تجمّع عسكري، لكنه يقدّم منصة واعدة للتعاون والتنسيق في الشؤون البحرية الاستراتيجية، لا سيما بعد وصول استشاراته إلى مستوى وزارات الخارجية.لكن لا شيء يضمن أن يحقق التحالف الرباعي هذا الوعد. حدّد التكتل أهدافاً مبهمة، منها ضمان أن "تحتفظ الصين بمكانتها المناسبة في العالم حصراً" كما قال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، لكنه لم يطرح توجهات واضحة حول خططه لبلوغ تلك الغاية.




تواجه الاستراتيجية الأميركية في منطقة المحيط الهادئ والهندي المشكلة نفسها. تريد إدارة ترامب بناء نظام إقليمي مبني على القواعد والديموقراطية، لكن يبدو أنها لا تعرف كيفية تحقيق هذا الهدف. وبدل أن تحاول إيجاد الحل، وضعت المسائل الاستراتيجية في أدنى الأولويات (فأضعفت مثلاً مشاركتها في قمم منطقة آسيا والمحيط الهادئ الأخيرة في بانكوك) وركّزت على اتفاقيات تجارية ثنائية.

لا عجب في أن تعجز هذه المقاربة عن كبح حملة الصين الرامية إلى تعديل طريقة تقسيم الأراضي، فكيف بالحري سياساتها المسيئة الأخرى، على غرار انتهاكاتها المشينة لحقوق الإنسان بحق جماعة الإيغور العرقية في "شينجيانغ"؟ تفيد التقارير بأن الحكومة الصينية اعتقلت أكثر من مليون مسلم، معظمهم من جماعة الإيغور، واحتجزتهم في معسكرات مزعومة لإعادة التأهيل: إنه أكبر سجن جماعي يحتجز الناس على خلفية دينهم منذ الحرب العالمية الثانية.

أوصت لجنة أميركية فيها أعضاء من الحزبَين الجمهوري والديموقراطي بفرض عقوبات على معسكرات الاعتقال في السنة الماضية، لكن لم تفرض إدارة ترامب ضوابط على الصادرات والتأشيرات ضد الكيانات والمسؤولين المرتبطين بها إلا في الفترة الأخيرة. أعربت الصين في المقابل عن استيائها من هذا القرار وأصرّت على أن أفعالها في "شينجيانغ" تهدف إلى "اقتلاع منشأ التطرف والإرهاب"، لكن من المستبعد أن تردعها التدابير الأميركية المحدودة نسبياً.على صعيد آخر، تبنّت إدارة ترامب مقاربة حذرة في طريقة تنفيذ "قانون السفر إلى تايوان" و "قانون الوصول المتبادل إلى التِبَت"، علماً أن القانونَين صدرا في السنة الماضية. كان التشريع المدعوم من الحزبَين الأميركيَين يهدف إلى دعم شعب هونغ كونغ الذي يحتج على انتهاكات الصيـن الفاضحة لحقوقه بموجب مبدأ "دولة واحــــدة ونظامان"، لكن من المتوقع أن يواجه المصير نفسه.

تعهدت الصين بالـرد في حال سنّت الولايات المتحدة القوانين الجديدة، بما في ذلك القانون الذي يطلب من وزير الخارجية التأكد سنوياً من تمتّع هونغ كونغ بـ"استقلالية كافية" لتبرير وضعها التجاري الخاص. على نطاق أوسع، وجّه الرئيس الصيني شي جين بينغ تحذيراً مفاده أن "كل من يحاولون تقسيم الصين" سينتهي بهم الأمر مع "جثث مسحوقة وعظام محطّمة"، و"أي قوى خارجية تدعم تلك المحاولات سيعتبرها الشعب الصيني واهمة".





ترسّخت هذه العقلية على مر سنوات من خرق القوانين من دون التعرض للمساءلة، ولن تتغير لمجرّد فرض تدابير اقتصادية صارمة. مع ذلك، تبقى أوراق الضغط الاقتصادية سلاح ترامب الاختياري. صحيح أن العقوبات والرسوم الجمركية الأميركية زادت التباطؤ الاقتصادي الصيني سوءاً وأضعفت بذلك قدرة البلد على توسيع بصمته العالمية، لكن يتطلب أي تقدم حقيقي مناورات استراتيجية لتوجيه رسالة واضحة للصين وحلفاء الولايات المتحدة الإقليميين.ستكون هذه الرسالة أساسية لأن التحالف الرباعي الذي كان يُفترض أن يشكّل ركيزة لمفهوم الحرية والانفتاح في منطقة المحيطين الهادئ والهندي لم يعد يراهن على الولايات المتحدة. عمدت اليابان (كان ذلك المفهوم في الأصل من ابتكار رئيس حكومتها شينزو آبي) إلى سحب مصطلح "استراتيجية" من رؤيتها السياسية الخاصة بمنطقة المحيطين الهادئ والهندي بكل هدوء، وعقدت أستراليا شراكة استراتيجية شاملة مع الصين، واستضاف رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي شي جين بينغ حديثاً في "تشيناي".

كلما فشلت الولايات المتحدة في التصرف كقوة مضادة مقنعة للصين لفترة أطول، سيحظى شي جين بينغ بمساحة استراتيجية إضافية لتنفيذ أجندته الإمبريالية الجديدة، وسيتراجع احتمال أن يرضخ للضغوط الأميركية الاقتصادية أو سواها. لتجنب هذا الوضع، يتعين على الولايات المتحدة أن تفرض ثقلاً استراتيجياً معيناً على سياستها في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، على أن تشمل مقاربتها وضع خطة واضحة لمقاومة الجهود الصينية الرامية إلى تغيير وضع المراوحة في بحر الصين الجنوبي. إذا انسحبت شركة النفط الأميركية "إكسون موبيل" من أكبر مشروع غاز في فيتنام، مثلما توحي المعطيات الراهنة، ستزيد أهمية تلك الخطة نظراً إلى استفادة الصين من إخراج شركات الطاقة غير الإقليمية من بحر الصين الجنوبي.

اعتبر ترامب يوماً استراتيجية أوباما في بحر الصين الجنوبي "عقيمة". لكنّ الضعف الحقيقي يتمثل في طريقة تعامل ترامب اليوم مع سياسة التوسع الصينية. فيما تتابع الصين توسيع نشاطاتها العدائية، لا مفر من أن يتّضح ذلك العجز ويصبح أكثر ضرراً.