جان كلود سعادة

دولة اللاندرومات الكبير (2)

21 تموز 2022

02 : 00

الكلام عن «اقتصاد الريع» فيه الكثير من المغالطات، فمبدأ اقتصاد الريع يصحّ أصلاً في الدول الغنيّة بالموارد الطبيعيّة والتي يمكنها أن تستعمل مداخيلها من هذه الثروات لتغطية ميزانيات الدولة وتوزيع الريع بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق التوظيف في الدولة ومؤسساتها أو برامج المساعدات الاجتماعية ومجانية التعليم والطبابة وغيرها. وتصح تسمية «الإقتصاد الريعي» على مرحلة نشوء الدول الغنية بالنفط والغاز وقبل أن تتحوّل معظم هذه الدول وتبعاً لخطط استراتيجية إلى استعمال موارد الثروة الطبيعية لبناء اقتصادات منتجة ومتطوّرة.

أمّا «تقاسم» المنافع في دولة ما بعد الحرب في لبنان فلم يكن بهدف استفادة المجتمع من موارد طبيعية بل كان توزيعاً للنهب والسمسرات والدين العام وتفصيل القوانين لمنفعة النافذين وجماعاتهم إضافة إلى الهدر والتوظيف الزبائني في الدولة واستفادة فئات محدودة من سياسات الفوائد والقروض التي إعتمدها مصرف لبنان. ومع شحّ موارد الدولة وتقاعسها عن تحصيل حقوقها كانت الإستدانة هي الحل السحري لدى المنظومة الحاكمة أولاً بالعملة المحليّة وصولاً إلى القرار الكارثي بالإستدانة بالدولار. سريعاً تحوّلت آلة الإستدانة الحكومية إلى مخطط بونزي ضخم يفوق حجمه عدّة مرّات حجم الإقتصاد اللبناني وتمت إدارته وتطويره من قبل المصرف المركزي والقطاع المصرفي بأكمله تحت أعين المنظومة السياسية وبركتها.

إعرف عميلك

أمّا المصارف اللبنانية فكانت هي المسؤولة المباشرة نظريّاً عن مراقبة عمليات تبييض الأموال وإعلام السلطات المختصّة عن الحالات المثيرة للريبة وذلك عبر تطبيق القوانين والقواعد المصرفية العالمية؛ أما فعليّاً فاقتصرت حالات التشدد على عدد قليل من حاملي الجنسيات الأجنبية وبعض الحالات المرتبطة بالسياسة. فالمصارف التي كانت مشغولة لسنوات بجمع الدولارات وتوظيفها لدى مصرف لبنان بفوائد مرتفعة، كان يفترض بها تطبيق القانون رقم 44 2015 حول مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومن واجباتها أيضاً معرفة زبائنها والتحقق من مصادر الأموال التي تصل إليها وأن تعرف القدر الكافي عن هؤلاء العملاء وطبيعة أعمالهم ومداخيلهم ومدى تناسبها مع المبالغ المودعة لديها لكي تتمكن من الإبلاغ عن الحالات المشكوك بأمرها إلى السلطات المعنية. لكن لا القانون 44 ولا «إعرف عميلك» تمكنت من إبطاء السباق المحموم لاجتذاب الودائع وبناء الأبراج لإداراتها وتوسيع شبكة فروعها وأعداد موظفيها. فالأرجح أن المصارف كانت تعرف زبائنها جيداً ولكنها أغفلت تطبيق القوانين وسمحت لعدد لا بأس به من المشبوهين بدخول النظام المصرفي دون عقبات تذكر وهناك اختبأوا وراء قانون السرية المصرفية الذي فقد مع الوقت علّة وجوده وأصبح أداة لتبييض الأموال والتهرّب الضريبي.

الإقتصاد الرمادي وألوان أخرى

الإبتكار الوحيد للمنظومة المافياويّة في لبنان كان استعمال مؤسسات الدولة نفسها لممارسة نشاطاتها أمّا كل الباقي فمستورد ومعروف من مافيات العالم وعصاباته. كما أن كميّة التبييض في بلد صغير ذي اقتصاد محدود وصلت إلى درجة أصبحت مثيرة للريبة حتى للمواطن العادي غير الخبير بأمور الجرائم المالية. من هذه المظاهر الملفتة نذكر بعض الأمثلة المعروفة من الكثيرين:

أ - إزدهار المضاربات العقارية وارتفاع أسعار العقارات والشقق حتى بعد انحسار موجة 2008 وما تبعها رغم وفرة العرض مقارنة بطلب موسمي أكثره من المغتربين اللبنانيين أو مستثمرين عرب وأجانب. وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من الشقق وخصوصاً الفاخرة منها لا تزال فارغة وغير مسكونة حتى اليوم.

ب – تفريخ الشركات والمشاريع التجارية التي شكّلت تغطية لأعمال التبييض. فبينما النشاط التجاري والمدخول الحقيقي لبعض هذه الشركات لم يكن يكفي لتغطية فواتير الإنارة، كانت تستمر وتتوسّع وتفتح فروعاً جديدة.

ج - ظاهرة النجاح السريع لبعض الأفراد والشركات الذين انتقلوا من نشاط إقتصادي متواضع إلى نجاح باهر بين ليلة وضحاها من دون أن يكونوا قد اخترعوا تيسلا أو نتفليكس أو علاجاً للكورونا.

د - التبييض التقليدي لحساب عصابات المخدرات والتهريب العابرة للحدود.

ه - ظاهرة مشتركة بين فساد النظام اللبناني وعمليات تبييض الأموال تمثّلت بتوزيع الحصص والرشاوى عبر شركات قائمة أو وهميّة ومصارف. مثال على ذلك هو استعمال الفوائد المرتفعة والقروض المدعومة لتغطية انتقال الأموال من جهة إلى أخرى وذلك عبر المصارف؛ أو ترسية عقود الإستشارات والإعلانات على جهات معيّنة أو ترتيب عقود بيع وخدمات وهمّية لتغطية عمليات توزيع المنافع والرشى دون أي عقبات رقابيّة تذكر.

«التبديل» الممنهج للثروات المشبوهة

و- إحدى أكبر جرائم المنظومة التي لا تغتفر هي عملية «التبديل» الممنهج للثروات المشبوهة التي جناها أصحابها بالليرة من الفوائد الفاحشة أو من عقود مع القطاع العام إلى دولارات حقيقية ومن ثم تحويلها إلى حساباتهم في الخارج أو إلى شركات وهمية مسجلة في الملاذات الضريبية وهذه يقال إنها شملت جميع المحظيين وهم كُثر حتى الذين يدّعون الفقر والعفّة. فعند انفجار الأزمة وجد أصحاب الدولارات الحقيقية أنفسهم عالقين مع حسابات بعملة مزوّرة وفاقدة القيمة أسماها حاكم المصرف المركزي «دولارات محلّيّة» دون أن تتم مساءلته من قبل الدولة اللبنانية ولا من قبل الدول الأجنبية التي تم الإعتداء على عملاتها الوطنيّة.

ز - الروايات العديدة التي ذكرتها الصحف وتداولها الناس عن حقائب مليئة بالكاش كانت تنقل في طائرات خاصة لشخصيات معروفة وتودع في المصارف اللبنانية دون سؤال، وعن الطائرات الخاصة التي تنقل «متعهدي الحفلات» كل خميس لتعود محمّلة بالكاش وخلافه يوم الأحد.

ح - التجارة المثلّثة بين لبنان وأفريقيا وأميركا ودول أخرى حيث تبدأ الرحلة بسيارات مستعملة أو ذهب أو مجوهرات أو أجهزة إلكترونية وأدوات كهربائية وتنتهي في المصارف اللبنانية بعد مرور سريع بنظام «الحوالة».

الأمثلة الظاهرة للعيان كثيرة ولا تنتهي والحكايات تروى عنها في مقاهي بيروت وسهرات الأصدقاء ففي الثقافة الشعبيّة المريضة أصبح المجرم واللصّ والمهرّب مثالاً يحتذى في «الشطارة». لكن الفصل بين جميع هذه الروايات والحقيقة الثابتة ممكن وهو اليوم أقرب الى الواقع من أي يوم مضى فكل ما نحن بحاجة إليه هو إلغاء السريّة المصرفيّة والتدقيق الجنائي في جميع الحسابات والقيود المصرفيّة وخصوصاً حسابات الذين عملوا في الدولة ومؤسساتها أو مع القطاع العام إضافةً الى كل من تدور حوله الشبهات في أي مجال او قطاع.

لا يمكننا بناء اقتصاد منتج وقادر على المنافسة قبل إزالة الإقتصادات الأخرى التي تخنقه، فالإقتصاد المنتج الحقيقي لا يمكنه أن يتعايش ويتنافس مع ‎إقتصاد التبييض فسرعان ما يقتله الإفلاس أو اليأس أو كلاهما معاً. فمهنة جني الثروات الطائلة من دون تعب أو إنتاج حقيقي أصبحت جزءاً من الأسطورة اللبنانية وتحوّلت دولة لبنان إلى لاندرومات كبير جدّاً لا يتوقف عن العمل.

@JeanClaudeSaade

(*) خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي


MISS 3