عيسى مخلوف

مُصارِع الثيران في جولته الأخيرة

23 تموز 2022

02 : 01

بيكاسو

لم تكتفِ حركة "مي تو" النسويّة التي جعلت من العنف ضدّ المرأة (تحرُّش واغتصاب واعتداء) قضيّة مجتمعيّة، بملاحقة الأحياء من الرجال البارزين في مجالات مختلفة، من بينها الترفيه والسياسة والأعمال والثقافة، فأسقطتهم من عروشهم، بل تابعت طريقها في اتجاه شخصيّات رحلت ولم تعد من هذا العالم، شخصيّات مكرّسة في المخيّلة الجماعيّة، ومنها أيقونة الفنّ الحديث بيكاسو، بعد قرابة نصف قرن على وفاته، وكان، هو أيضاً، أحد الذين اعتدوا بقساوة على المرأة. ولئن حضرت النساء بقوّة في أعماله الفنّيّة، فإنّ التعاطي معهنّ في الحياة اليوميّة كان أبعد ما يكون عن الفنّ. ألم يصرِّح مرّةً لفرانسواز جيلو، إحدى عشيقاته، بأنّ "النساء قسمان: إلهات أو ممسحة أقدام"؟!

بيكاسو الذي كان من هواة مصارعة الثيران، جاء اليوم من يَصرعه. ولقد اعترفت رئيسة "متحف بيكاسو" في باريس سيسيل دوبريه، في حديث إلى "وكالة الصحافة الفرنسيّة"، بأنّ الحركة النسويّة "نطحت الفنّان". وأضافت: "إذا كان الهجوم ضدّ بيكاسّو اتّخذ هذا الاهتمام على المستوى العالمي، فلأنّه الفنّان الأكثر شهرة وشعبيّة في الفنّ الحديث، ويُنظَر إليه الآن بصفته صَنَماً يجب تدميره".

في موازاة الحملة التي تقودها "مي تو" لكشف الجانب المظلم في شخصيّة بيكاسو، وتسليط الضوء على العنف الذي كان يمارسه مع النساء، أطلقَ متحفا بيكاسو في باريس وفي برشلونة مشروعاً كبيراً ينطلق من تفكير سياسي وتاريخي لإظهار الجوانب المتنوّعة في شخص الفنّان ونتاجه، وكذلك في علاقته بالمرأة، من خلال لقاءات وندوات يساهم فيها متخصّصون في الفنّ وعلماء اجتماع. بالإضافة إلى ذلك، يزمع متحف برشلونة على عرض مجموعة من اللوحات التي تحضر فيها المرأة وقراءة هذه الأعمال قراءة جديدة معاصرة. بهذه الطريقة، يكون المهتمّون بأعمال الفنّان قد دخلوا طرفاً في السجال القائم حالياً، في محاولة لجعله نقاشاً موضوعياً حتى لا يتحوّل إلى استعراض كاريكاتوري.

وإذا كان البعض يؤكّد أنّ بيكاسو كان يمارس سيطرة مدمِّرة على النساء اللواتي أحببنه، فإنّ البعض الآخر يزاوج بين الإنسان والفنّان، ويبيّن كيف كان هذا الفنّان خلاّقاً ومبدعاً بقدر ما كان رجلاً عنيفاً وغيوراً وفاسداً ومُغوياً لا يتردّد في "غزو قلوب شابّات صغيرات وإساءة معاملتهنّ"، ومنهنّ، على سبيل المثال، فيرناند أوليفييه، أولغا كوكلوفا، ماري تيريز فالتر، دُورا مار، فرانسواز جيلو، جاكلين روك... وهنّ اللواتي يعتبرهنّ مؤرّخو الفنّ "ملهمات" بيكاسو وعشيقاته.

في هذا السجال ثمّة مَن يلاحظ أيضاً أنّ بيكاسو ابنُ زمانه، أي الزمن الذي تُعتبَر فيه المرأة كائناً قائماً بغيره لا بذاته، وملكية خاصّة للرجل يفعل بها ما يشاء متّكئاً على قوانين وتشريعات أرضيّة وسماويّة لا تزال سائدة في بعض المجتمعات حتّى اليوم. إضافة إلى ذلك، هناك نصوص دينيّة ساعدت في تكريس هذه الصورة النمطيّة التي تميّز بوضوح تامّ بين الرجل والمرأة، وتُفاضِل بينهما، وتعكس تقاليد وتوجّهات ذهنيّة ذكوريّة جرَّدت المرأة من بُعدها الإنساني واختزلتها في صورة جسدها وفي دورها البيولوجي فحسب، حتّى لا يعود لها وجود إلاّ إذا قبلت بهذا الدور، وتحمّلت صنوف القهر، وضحَّت بحياتها، وقبلت بالاستلاب الكامل الذي وجدت نفسها فيه.

قلّما نجد مبدعاً يكون، على المستوى الإنساني، متناغماً مع عمله الفنّي. هناك نسبة كبيرة من المبدعين يشكّلون النقيض لما يبدعونه ولما يمثّله إبداعهم، فهم، في الجانب الشخصي منهم، لا يُطاقون ولا يُحتَمَلون، بَشِعون وقُساة القلوب، بينما النتاجات التي ينتجونها مرادفة للجمال والرحمة. لذلك، لا بدّ من الفصل بين المبدع وإبداعه، لأنّ محاكمة سلوكه ومواقفه لا تنطبق بالضرورة على نتاجه الفنّي، وإلّا ما الذي يبقى من الفنّ عبر العصور؟ هل تُلغي المواقف السياسيّة التي تبنّاها الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس أهمّيّة أعماله الأدبيّة؟ هل تُشوِّه النزعة العنصريّة التي عُرِفَ بها الكاتب الفرنسي لْوي فردينان سيلين مكانتَه الأدبيّة في القرن العشرين؟ وهل أنّ الآلام المبرّحة التي أَلحقها الشاعر محمّد الماغوط ومزاجه العنيف، بزوجته الشاعرة سنيّة صالح معيار صحيح لتقييم عمله الشعري؟ الأمثلة في هذا المجال لا تُعَدّ ولا تُحصى. وجوهنا متعدّدة لا يختصرها وجه واحد، بل يضيع وجهنا، أحياناً، لكثرة أقنعتنا!


MISS 3