بشارة شربل

الفاتيكان... تغيير الصيغة و"تدوير" الحياد

13 آب 2022

02 : 00

أبى السفير البابوي المغادر إلا أن يلقي حصاة في مستنقع الحياة السياسية اللبنانية. فبموازاة المساعي غير الحميدة للتوافق على رئيس ماروني "ضعيف العصب" يناسب الاستدارة الجنبلاطية ويستلهم حقبة الوصاية السورية ويلاقي رغبة "حزب الله" في إطالة الأزمة لتسهيل المضغ بعد القضم، أعادنا كلام السفير سبيتيري الى جوهر الموضوع بدعوته الى صيغة تعددية خلّاقة تجدد العيش المشترك في لبنان.

ومن يعرف السفير سبيتيري يدرك أنه لا يلقي الكلام على عواهنه. فهو متعمّق بالقضية اللبنانية بقدر تبحُّره في قضايا مسيحيي الشرق. ويعلم أن ما يقوله يؤخذ على محمل توجيه البوصلة، أو الاتكاء على التزام الفاتيكان بالمساعدة على تغيير وضع يعتبره كارثياً على مستقبل لبنان ومسيحييه.

سيأتي حتماً مَن لم يمل من الاستشهاد بسؤال ستالين لتشرشل حين أبلغه في مؤتمر يالطا سنة 1945 ان البابا أعلن الحرب على هتلر: وكم دبابة لدى الفاتيكان؟ لكن ذلك لن يقلّل من قيمة الموقف الذي أطلقه القاصد الرسولي ولا يفتّ عضد الساعين الى حلول حقيقية إنقاذية وليس الى تأجيل وترقيع يدفع ثمنهما المواطن كل يوم فقراً وتعتيراً، وبمنطقهما يؤتى بالانتهازيين وضعاف النفوس الى سدة المسؤولية ليتحولوا ألعوبة أو يلعبوا دور حصان طروادة متنازلين عما تبقى من سيادة وهيبة للدولة.

لا يفشي السفير البابوي سراً حين يتمنى أن يتوصل اللبنانيون الى صيغة جديدة تنظم اجتماعهم. فهي باتت رغبة كثيرين بعدما فشلت آخر محاولة جدية وصادقة لرأب الصدع وتسكير جروح الحرب واستعادة سيادة الدولة الجامعة، بفعل انقلاب المنظومة على اتفاق الطائف وتحويله منهبة مفتوحة ووسيلة لتحقيق الغلبة السياسية والطائفية.

سبعون عاماً من عمر لبنان المستقل، عشنا معظمها في الحروب الأهلية الساخنة والباردة مع ما تضمنته من مئات آلاف الضحايا والمشردين، وانتهت بتفكك الدولة المركزية وغياب السيادة وانهيار الاقتصاد وهجرة ملايين اللبنانيين، ليس للبحث عن فرص أفضل فحسب، بل يأساً أيضاً من حالة اللادولة التي تضع البلاد على كف عفريت كلما هبت رياح الإقليم وتناغم الداخل مع الخارج للقفز فوق الولاء الوطني.

هي فترة زمنية كافية لنستنتج ان الصيغة فشلت في أداء دورها بجمهوريتيها الاولى والثانية، ولا فرق سواء عزونا السبب الى فكرة "لبنان الكبير"، أو الى النص التأسيسي القاصر عن فهم تركيبة المجتمع وصعوبة تكوين وطن ودولة من موزاييك طوائف لها تواريخ وثقافات متناحرة أكثر منها متآلفة، أو الى الأشخاص الذين خانوا روح النص وفسروه حسب أهوائهم ونوازع جماعاتهم وحقارة أولي الأمر والمتنفذين منهم، فحالوا دون محاولات صادقة لبناء دولة خُيِّل الى كثيرين أن مشاكلها تحل بـ"التفهم والتفاهم"، وبإعلاء المصلحة الجامعة، وبالتأسيس لدولة المواطنية.

الكرة في ملعب اللبنانيين ليفعِّلوا الدعم الفاتيكاني لهم إن "ابتكروا صيغة تحفظ التعددية". فالكرسي الرسولي وصل الى قناعة بأن لبنان الحالي مات لكن دفنه غير ممكن بدون عقد اجتماعي جديد يعيد الأمل بالمستقبل الى كل اللبنانيين بعيداً عن الأوهام. ليس لدى الفاتيكان دبابات ولا جيوش ليفرض صيغة أو ينصر فريقاً. عنده ثقله المعنوي وعنوان الحاجة الى حياة آمنة، وقد جسَّده البطريرك الراعي بمطلب "الحياد"، لكن دبلوماسية روما إذ تستشعر العقبات تريد تدوير زواياه وربما تغيير التسمية علّ مضمونه يشكل ضمانة أي نظام تعددي قابل للحياة.


MISS 3