قطاع الطاقة المستقبلي يُعيد رسم المعالم الجيوسياسية

12 : 13

لفهم الوضع الجيوسياسي، يجب أن ندرك معنى النفوذ الذي يشتق بدوره من مفهوم الثروة الوطنية. تكشف الدول القومية مكانتها ودورها في العالم من خلال طريقة استعمالها لثرواتها دفاعاً عن مصالحها. تُعتبر موارد التربة من أهم عناصر الثروة. لكن يتولى البشر تقييم تلك العناصر، وبالتالي تتفوق الموارد البشرية عليها.


في الولايات المتحدة...

كانت بيئة الأعمال الأميركية في قطاع الطاقة من أوائل المجالات التي تفاعلت مع السياق الدولي الجديد الذي بدأ يتشكّل منذ العام 2001. وبسبب ضغوط الأسعار وزيادة المخاطر الأمنية المطروحة على تطور الأعمال في البيئة الدولية (بالنسبة إلى شركات النفط تحديداً)، لجأت شركات الطاقة مجدداً إلى الاستثمارات المحلية التي تفضّل التقنيات الجديدة. كان التقدم التكنولوجي في مجال الطاقة يعني زيادة إنتاج النفط الصخري. بعدما بلغ هذا الإنتاج 6.8 ملايين برميل يومياً في العام 2006 ثم وصل إلى 13 مليون برميل في العام 2015، من المتوقع أن يُحوّل الولايات المتحدة من بلد مستورد إلى مُصدّر صافي بحلول العام 2020. سيُمهد هذا الواقع، إلى جانب العناصر التي جدّدت أنماط الاستهلاك في أهم سوق للطاقة في العالم، لإنشاء ركيزة جديدة للنقاشات حول أمن الطاقة.

في أوروبا...

إنتشرت آثار الأزمة المالية بوتيرة أبطأ في القارة الأوروبية. لكنها ترافقت بدورها مع عواقب طويلة الأمد. أدت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية إلى عودة القومية إلى الواجهة. كانت مشاعر الناس تجاه طبقتهم السياسية التقليدية، التي تُعتبر على نطاق واسع شائبة وفاسدة، متشابهة في المجتمعَين الأوروبي والأميركي، لكنّ أثرها في أوروبا مضاعف. هي لا تؤثر على الحياة السياسية الداخلية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي فحسب، بل تنعكس أيضاً على عمل الاتحاد ومفهومه. كانت خطة "بريكست" جزءاً من آثار الاستياء الاجتماعي، بينما شكّل تكامل الاتحاد الأوروبي انعكاساً له.

لوضع استراتيجيات فاعلة في السياق العالمي الجديد، يجب أن نفهم التوجهات الجديدة للسكان، فهي التي تُحدد وجهة السوق. لكن ما هو تعريف السكان؟ وما هي مواصفاتهم؟ في بلدان تستهلك الطاقة تقليدياً، على غرار الولايات المتحدة وأوروبا، تشير التركيبة السكانية وعوامل اجتماعية أخرى إلى تراجع طبيعي في استهلاك الطاقة خلال السنوات الخمس عشرة المقبلة. بدأ الجيل القديم من طفرة المواليد يتقاعد في العام 2007، وسيؤدي اختفاؤه من سوق العمل إلى تراجع تلقائي في استهلاك الطاقة. تتمتع الولايات المتحدة حتى الآن طبعاً بتركيبة سكانية متينة، لكن تختلف العادات الاستهلاكية بين الأجيال. وبسبب العادات التي ورثها أولاد وأحفاد ذلك الجيل وتدرّبهم على مفهوم فاعلية الأداء، يصبح ذلك التراجع ممكناً.

في أوروبا، بدأ الغرب يواجه مشكلة ديمغرافية ويمكن رصد آثارها في النطاق الاجتماعي والسياسي، لا سيما في سياسات الهجرة الوطنية. وفي الغرب عموماً، ضاعفت أزمة اللاجئين في العام 2015 الضغوط المفروضة على بيئة ديمغرافية مضطربة أصلاً. أما أوروبا الشرقية، فليست بعيدة جداً عن الغرب مع أنها تتمتع بتركيبة سكانية أفضل. زاد عدد المتقاعدين بسرعة منذ العام 2013 في ألمانيا وإيطاليا واليونان وفرنسا. وتخضع معاشات التقاعد في أوروبا الشرقية للضغوط، ويعمل عدد كبير من الشباب خارج المنطقة. تختلف الأسباب من منطقة إلى أخرى، لكنّ انكماش الأسواق متشابه فيها على الأرجح. على المدى الطويل، ستؤدي خيارات الأجيال الجديدة المبنية على التقدم التكنولوجي إلى تراجع الطلب من الدول الاستهلاكية التقليدية وزيادة الحاجة إلى الابتكار.

مخاطر جديدة على خريطة جديدة

تؤدي هذه العوامل كلها إلى إعادة رسم خريطة العالم، على مستوى موارد الطاقة ومتطلبات أمن الطاقة. سيتابع منتجو الطاقة البحث عن سوق جديد، لكن لن تُركّز جهودهم على تجديد أسواق التجزئة بقدر ما تحاول دعم نماذجهم التنموية. من المتوقع أن يستهدفوا آسيا، على رأسها الصين، لكن تبقى القدرات الاستهلاكية في تلك المنطقة محدودة. في عصر النمو الاقتصادي الضعيف، ستمرّ بلدان مثل روسيا ومنتجون في الشرق الأوسط بفترات من الفوضى الاقتصادية. قد يؤدي هذا الوضع في نهاية المطاف إلى إصلاح نماذج التنمية الوطنية، لكنه قد يُسبب أيضاً صراعاً داخلياً أو دولياً.

بدأت الولايات المتحدة تنسحب بكل وضوح من إدارة شؤون العالم، حتى على المستوى السياسي، منذ العام 2016. كان بطلا الحملة الرئاسية للعام 2016 دونالد ترامب الذي اقترح إعادة التفاوض حول جميع التحالفات والاتفاقيات الأميركية ثم نفّذ تلك الخطة عملياً في المرحلة اللاحقة، وهيلاري كلينتون التي عارضت إبرام جميع اتفاقيات التجارة الحرة في آخر 25 سنة، حتى تلك التي شاركت شخصياً في التفاوض عليها. كذلك، عمدت الولايات المتحدة في العام 2015 إلى تخفيض قواتها المسلحة في الساحات الخارجية إلى أعداد غير مسبوقة منذ حقبة ما قبل العام 1941. تزامناً مع زيادة الإنتاج المحلي، لم تعد الولايات المتحدة تهتم بتأمين مسارات إمدادات الطاقة العالمية بالقدر نفسه.

في ظل تراجع المصالح الأميركية، يتكل العالم أجمع على نظامٍ ابتكرته الولايات المتحدة وأدارته وحَمَتْه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ويعني انسحابها من هذا الدور أن مصدّري الطاقة في العالم سيضطرون لإيجاد الأسواق وتأمين إمداداتهم بأنفسهم، بينما يضطر المستوردون لإيجاد طرقٍ لتأمين مصادر الطاقة وتنظيمها.

يعيد هذا السياق الجديد صقل عدد من المسائل الأساسية في الشؤون الجيوسياسية العالمية. مع انسحاب الولايات المتحدة من الخليج العربي (من المستبعد أن تنسحب بالكامل في المستقبل القريب)، قد يتصاعد الصراع بين المملكة العربية السعودية وإيران. تواجه الدولتان مشاكل اقتصادية وتخوضان عمليات معقدة لتنفيذ إصلاح اجتماعي. كلاهما تملك احتياطيات نفطية أيضاً، وتربطهما علاقات معقدة مع الولايات المتحدة. على المستوى الإقليمي، قد يدفع هذا الصراع تركيا إلى المشاركة، علماً أن هذه الدولة تحاول استرجاع دورها كقوة إقليمية ونقطة وصل بين أوروبا وآسيا.

إذا تصاعدت الاضطرابات في الشرق الأوسط، لن تتأثر أسواق الطاقة وحدها، بل الاستقرار العالمي أيضاً. ستتابع الولايات المتحدة التدخل في المناطق التي تفيدها، فتحاول تقليص المخاطر التي تتعرض لها. نظراً إلى السيناريوات المحتملة في الشرق الأوسط، من المتوقع أن تتحرك الولايات المتحدة بأبطأ وتيرة ممكنة. أما القوى الأخرى (لا سيما روسيا، وحتى تركيا)، فستحاول منع أي انسحاب أميركي كامل.

نظراً إلى التبعية القائمة بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، تتعلّق إحدى الضرورات الجيوسياسية بنظر واشنطن بمنع نشوء أي صراع في القارة. قد تستمر عدائية روسيا التي تزداد ضعفاً بسبب المشاكل الاجتماعية واتكال اقتصادها على سعر النفط. لكبح هذه العدائية، تدعم الولايات المتحدة إنشاء تحالف إقليمي في أوروبا الشرقية. لكن ستنشر الأزمة الاجتماعية والسياسية في روسيا الفوضى، لا في الجوار الأوروبي فحسب، بل في آسيا الوسطى أيضاً. هذا السيناريو قد يستدعي تدخّل الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا.

في مفارقة كبرى، قد تتضرر الولايـــات المتحدة على المدى الطويـل بعد انسحابها المدروس الذي يهدف في الأساس إلى تعزيز استهلاك الطاقة التي ينتجها البلد محلياً. فالعالم متعدد الأقطاب الذي نشأ بعد العام 2007 لا يدعم "اللاعبين الإقليميين" عشوائياً، وبالتالي لن يصبحوا مجرّد مدراء للشبكات القائمة. كما أنه لا يفرض صفات جديدة لزيادة الثروات وتعزيز النفوذ أو المسؤوليات. كذلك، لا يعني انسحاب الولايات المتحدة انهيار ثروتها أو نفوذها. لكن ستنتج المعادلة الجديدة عواقب تترافق مع حسابات أكثر تعقيداً لإدارة المخاطر في المساحات الخاصة ولتفعيـــل الاستراتيجيات الوطنية.

2019: بداية جديدة

أعلن العام 2019 عن نظامٍ لم تعد فيه الولايات المتحدة "شرطة العالم"، ومع ذلك تبقى واشنطن أعظم قوة عالمية. لقد أصبحت الجغرافيا أكثر مرونة. لم تعد خريطة الطاقة تقتصر على منتجي ومستهلكي الهيدروكربون. بل عدّل عامل الابتكار كل ما يتعلق بسلسلة إمدادات الطاقة، بدءاً من عملية الاستخراج وصولاً إلى إنشاء البنى التحتية والاستهلاك. بفضل الابتكار، أصبحت الموارد البشرية أهم من أي موارد طبيعية أخرى في العالم، لأن ذكاء البشر وإبداعهم يحددان مسار تطوير نماذج جديدة من قطاع الطاقة.لكن لا تزال الانقسامات الإيديولوجية والاختلافات الجغرافية مستمرة ومن المتوقع أن تتعمق. في الوقت نفسه، توسعت مظاهر السيادة بدل أن تنحسر، بدعمٍ من النزعة القومية. على المدى الطويل، ستتطور الدولة القومية على الأرجح ويُعاد صقل معالمها بناءً على المفاهيم الاجتماعية للسياسة وتوسّع النزعات الفردية. من المتوقع أن تتشكل دول جديــدة وتعمــد دول أخرى إلى توسيع نطاق سيطرتها.أخيراً، من المنتظر أن تتلاشى الحدود الجغرافية الملموسة تحت تأثير عصر الرقمنة، بينما تصبح البنى التحتية جزءاً من الجغرافيا الطبيعية من خلال ربط الشبكات الاجتماعية الناشئة. لكن تنتج هذه الروابط كلها شكلاً من رهاب الاحتجاز ومخاوف جديدة تُحددها التحديات المستجدة في المجتمعات. أمام هذا الوضع، ستستمر النقاشات حول ما تستطيع المجتمعات البشرية فعله لتخفيف مستوى اتكالها على بعضها، وستتأثر بذلك طريقة تطور قطاع الطاقة في العالم مستقبلاً وكيفية نشوء أنواع جديدة من القوى الجيوسياسية المؤثرة.


MISS 3