عيسى مخلوف

بين جمال الإبداع والسقوط الإنسانيّ

24 أيلول 2022

02 : 01

لوحة لفؤاد نعيم (نقلاً عن صفحته في الفيسبوك)

أثارت وفاة الشاعر العراقي سامي مهدي، ومن بعده رحيل الشاعر اللبناني محمّد علي شمس الدين، السجالَ مجدّداً حول العلاقة بين الأدب من جهة، والموقف السياسي والسلوك الشخصي، من جهة ثانية. يبقى السؤال: إذا كنّا لا نتّفق مع هذين الشاعرين في الرأي، فهل ينسحب ذلك على تقويمنا نتاجَهما الشعريّ؟ وكنّا طرحنا سؤالاً مشابهاً بخصوص أدونيس الذي كان ولا يزال محور هذا التساؤل: إذا اختلفنا معه في مواقفه السياسيّة وبعض أطروحاته الفكريّة والأدبيّة، فهل هذا يعني أن نلغيه بصفته شاعراً مميّزاً وصاحب حضور في الثقافة العربيّة المعاصرة؟

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نلغي الوجه الأدبي لأحد الذين طبَعوا الأدب الفرنسي في القرن العشرين، والمقصود به لْوي فردينان سيلين الذي أَوغَل في خطابه العنصري الذي يذكّر بخطاب سعيد عقل إبّان الحرب الأهلية في لبنان؟ ولماذا لا نلغي خورخي لويس بورخِس والجميع يعرف ما كانت عليه مواقفه السياسيّة؟ لماذا لا نلغي سعدي يوسف بسبب شطحاته العنيفة، وصلاح ستيتيّة بسبب نرجسيّته التي لا تُحتمَل ولا تُطاق. وإذا ما عدنا إلى الماضي، لماذا لا نلغي أيضاً جبران خليل جبران وادّعاءاته المتعلّقة بِنَسَبه، وحكايته المتخيّلة مع النحّات أوغست رودان؟ لماذا لا نلغي سان جون بيرس (أحد أبرز الشعراء الفرنسيين في القرن العشرين والحائز على جائزة نوبل للآداب في العام 1960) لأنّه كان، على المستوى الشخصي، نسيج ألاعيب وأكاذيب؟ وراينر ماريا ريلكه بسبب أنانيّته المفرطة وسلوكه مع النساء؟ وبُول إيلوار بسبب موقفه المؤيّد لستالين وقد تجسّد هذا الموقف أيضاً في قصيدة له استهلّها بقوله إنّ "ستالين في قلب البشر"، وهو نفسه الشاعر الذي تغنّى بالحرّية في قصيدته التي عُرفَ بها على مستوى العالم أجمع. كذلك الأمر بالنسبة إلى لْوِي أراغون... اللائحة لا تنتهي، شرقاً وغرباً، وفيها أمثلة تبلغ حدّ الفظائع.

خلاصة القول إنّ القوّة الإبداعيّة التي تطالعنا عند هذا الكاتب أو ذاك، لا تختصر بالضرورة شخصه بأكمله، بل تقابلها هشاشة الكائن وتناقضاته. هناك من حاول، في نتاجه الشعريّ، أن يستعيد لغة الإنسان الأصليّة التي ضاعت، وأكّد في هذا النتاج على نزعة جماليّة وإنسانيّة خالصة، بينما هو في حياته اليوميّة أسير تُرّهات ومواقف تكشف عن وجه آخر. كأنّنا أمام وَجهَي "جانوس" في الأسطورة الإغريقيّة، الوجهين اللذين لا يلتقيان أبداً.

هناك شعراء يتحسّسون مرور غيمة فوق رؤوسهم ويتفاعلون مع تَفَتُّح وردة في الصباح، ومع ذلك، لا تعنيهم المجزرة التي تحصد الأبرياء أمام عتبات منازلهم، ولا يعنيهم الدم المُراق ممّن لا يملكون سلاحاً سوى الكلمة. هؤلاء هم شعراء القمع! ينضوون إلى القطيع المأخوذ بجبروت الحاكم المستبدّ. تغويهم خطاباته الدونكيشوتيّة ونزعته الظالمة، فلا نعود نعرف أين المبدع من المشعوذ، وأين الحدود الفاصلة بين الجمال والقبح في الشخص الواحد، وكيف تَخرج من نفسيّة مُعتمة إلى هذا الحدّ حبّاتُ لؤلؤِ الأدب والفنّ!

صحيح أنه يصعب علينا أن نتقبّل من الأدباء والفنانين ما نتقبّله، مرغمين، من أهل المال والسياسة، أو من الذين يفتقدون الوعي والقدرة على التمييز. فالإبداع هو - وكما نحلم دائماً أن يكون - تَعامُل مع الجماليّات والإنسانيّات. لكن، في الواقع، قلّما نجد مبدعاً تكون مواقفه، ويكون سلوكه الشخصيّ، في مستوى إبداعه. وليست مصادفة أن تكون الكتب - هذه الكائنات الحيّة الصديقة - أقرب إلينا، في أغلب الأحيان، من كتّابها أنفسهم!

على الرغم من ذلك، ومهما كان الرأي الآخر معادياً لآرائنا، لا بدّ أن يحلّ النقد محلّ النقض، والحوار محلّ التكفير والتخوين والاتهامات التي تمهِّد للقتل، الجسدي والمعنوي على السواء. عندئذ فقط، نخرج من حفلة الإعدام الجماعيّة، وتبدأ الخطوة الأولى في مسار طويل.

ختاماً، لماذا لا نحتفي بتلك القلّة من الإنسانيّين، أولئك الذين تزداد قيمتهم في مقدار نُدرتهم؟ ولماذا لا نعتبر أنّ الحسّ الإنساني، في حدّ ذاته، هو فعل إبداع، وأنّ أصحاب هذا الحسّ مبدعون وخلاّقون أيضاً، ولا بدّ من الالتفات إليهم وتكريمهم، لأنّ إبداعهم الإنساني يعطي الإبداعات الأخرى قيمتها الأعمق؟


MISS 3