عُرضت، الأحد 25 أيلول في "مسرح المدينة" في الحمرا، مسرحية "Casting" للمبدع السوري سامر محمد إسماعيل. إنها مسرحية مختلفة ومغايرة في أمزجتها ودراميّتها، ونبضها ودلالاتها، ونسيجها وإيقاعاتها، ومفارقاتها ولوثاتها الممسوسة بجوهر الحياة وبعض المفاهيم البالية المتوارثة الطافية فوق السطح في بلداننا ومجتمعاتنا... وفي أبعادها المشهدية وحفرها الغائر المترجّح بين الواقع المختل السقيم والخيال الإبداعيّ الجامح، والهذيان الواقعي وعلم النفس والمسرح. تمظهرَ كل ذلك في توازٍ وتقاطعٍ لمّاحَين، ونمَّ عن عمقٍ وتميُّزٍ بَيِّنَين. هذا علماً بأن سامر محمد إسماعيل متعدد المواهب وهو شاعر أيضاً وصحافي في الفضاء الثقافي. الجمهور النخبويّ صفّق في بيروت بحرارة للملحِ المكوَّمِ في الأغوار الملوِّحة. عملٌ مسرحيٌّ متقن يشفّ عن طبقاتٍ في النصّ المسرحي داخل طبقات، محفوفٌ بـ"أركيولوجيات" النفس البشرية بالمعنى المجازي، في راهنٍ عليلٍ شائكٍ مسجّى بالتأخّر والتخلّف، ومتشابكٍ في دوائرَ داخل دوائر. تتجاورُ في "هارمونيا" النصّ والعمل المتآلف في تنافراته الرغباتُ والتطلّعاتُ الفنية والإنسانية، وأحلام اليقظة الصهّالة في تمرّدها على اللُّجُم المتراكبة والحواجز والموانع والعثرات والفجـوات، والخيبات والحسرات والصراعات والانكسارات والتصدّعات وتشظّيات الروح والعقل والواقع، وصولاً إلى عاقبتها في المرض النفسيّ الذي يمثّل أيضاً مرآةً وانعكاساً لواقعٍ هزيل ومُمْرِض بطبيعة الحال أو موهِن في أحسن الأحوال.
مؤلّف ومخرج العمل سامر محمد إسماعيل يرى عموماً في سياقاتٍ متعدّدة أنّ الكتابةَ عملٌ فرديٌّ، وكلّ ما يحاول بعضهم اليوم فعله من خلال تحويلها إلى ورش جماعية، يشكّل نوعاً من الإلتفاف على مهنة الكاتب: "سيمرّ وقتٌ ليس بالطويل حتى يكتنهَ هؤلاء (التجريبيون) الفارق بين النص الدراميّ والخواطر ونُتَف الأفكار. سيمرّ وقتٌ حتى يظهر فنّانون يؤمنون بأنّ الفنَّ المسرحيّ أو السينمائيّ أو التلفزيوني عملٌ جماعي تُشارك فيه عشرات الأدمغة الإبداعية، وعلى رأسها الكاتب. لكننا اليوم في طور التكنوقراط ومخرجي السؤال "الألمعي": "شو الكاميرا يلّي صوّرت فيها؟!". مفارقةٌ تليق بمجتمعاتٍ منهوبة ويائسة ومهمَلة. مجتمعاتٌ تستهلك تكنولوجيا لم تُسهم في صناعتها. المفارقة تتفاقم اليوم وتتّسع لتحويل الفنّ والكتابة إلى مجرّد ورشة، وتحويل الجميع فيها إلى عمّال فنٍّ وعمّال كتابة!".
أسهَمَ في إنجاح مسرحية "Casting" الممثل عامر علي في دور جو المخرج، ودلع نادر بدور الممثلة جوليا، ومجد نعيم في دور الزوجة ناديا، وأدهم سفر (سينوغرافيا)، ورامي الضللي (موسيقى)، وسهى العلي (أزياء وماكياج)، ويوسف النوري (مدير منصة)، ومحمد قطان (تقنيات فيديو)، علماً بأنّ العرض من إنتاج المسرح القومي في دمشق.
مسرحيةٌ مَصُوغة عمادها نصٌّ جريءٌ ومتراصٌّ في انصبابه وتسلسله، تتبدّى فيها موهبةٌ برّاقة في الكتابة ومهارةٌ في الرؤية الفنّية المولّدة التي أفاضت الدرامية في ذروتها فسُمع في المسرح رعد ضرب الأكُفّ بالأكُفّ دقائق وقوفاً.
