ساندي الحايك

إجازة على غفلة من الشاشات والأخبار والمهنة

من اسطنبول إلى طرابلس مع حبّي...

17 كانون الأول 2019

02 : 00

على غفلةٍ، حزمت أمتعتي. كانت رحلة غير مخططٍ لها. دعاني من أحب لخوض مغامرة مجنونة لخمسة أيامٍ، ننفصل فيها معاً عن عالمنا المأزوم وبلدنا المعجون بالعِلل والفضائح، ومهنتنا المُفلسة التي تغزوها الشواذات يوماً بعد يوم وتُعمم فيها الغوغائية على أنها قاعدة والاتزان استثناء. دعاني للبحث عن فضاء أكثر هدوءاً بعيداً عن الثورة وما يُحاك ضدها وعليها، لنُسجل معاً في دفتر عمرنا لحظات غير اعتيادية، تُساعدنا على تحمل عناء العيش ها هنا، والصبر لتجاوز هذا المخاض العسير.

دعاني للتعرف إلى مدينة لطالما راودتني فكرة زيارتها واكتشاف سرّ تعلّق اللبنانيين بها. فبين اسطنبول التركية واللبنانيين صولات وجولات سياحية ذهاباً وإياباً. عشق معظمنا تلك المدينة المترامية على ضفاف البوسفور، بنهارها المزدحم بالنشاط وليلها الذي لا يغفو، حتى باتت القبلة السياحية الأولى للبنانيين الراغبين بالفرار من أزمات بلدهم اللامتناهية.



البوسفور


لم يكن الوصول إلى مطار رفيق الحريري الدولي سهلاً يومها. بلوغه كان رحلة بحد ذاتها. غادرنا وطننا بشوارع تغلي بنبض الناس. بالنسبة لاثنين يعملان "في مهنة المتاعب"، كان لا بد من استراحة محارب تأخذنا بعيداً عن الضوضاء التي تُحاصرنا في الطرق وصفحات الجريدة وعلى شاشات الهواتف والتلفزيون، وتُنسينا، ولو لأيام، القلق الدائم من المجهول الذي بات يُقاسمنا أكلنا وشربنا وأسرّتنا وأحلامنا. لم يكن أمامنا سوى الهرب من حوارات التحليل السياسي ومساعي التكليف والتأليف وأسماء المكلفين والمحروقين و"إبداعات" المصارف وخفض السيولة وتجفيف الدولار. سياسة قطع الطرق كانت في أوجها. أوصال بيروت مقطّعة ولا سيارات أجرة تمرّ من أمام مسكني. سارعنا للاتصال بواحدة من شركات التاكسي لطلب سيارة، لكن الموظف أخبرنا أنهم أوقفوا العمل استثنائياً بسبب ظروف البلد. اتصلنا بشركة أخرى، فكان الجواب نفسه. فكّرنا لثوان باحتمال الذهاب بسيارتنا وركنها في المطار، إلا أن هذا الاحتمال تبدد بمجرد احتساب تكلفته الباهظة. مرّت 10 دقائق ونحن صامتان. كل منا يُفكر وعيناه حائرتان كيف يُمكننا الوصول بحقائب سفر كبيرة؟ بسرعة أخرج حبيبي هاتفه الخلوي من جيبه. بدأ بالضغط على أزراره وهو يرمقني بنظرة ماكرة. استغربت فبدد حيرتي بالقول: "سنعبر على الموتوسيكل".



ترامواي في شارع الاستقلال


من بيروت إلى مطار صبيحة

بعد برهة من الوقت وصل صديقه وأقلنا على دراجته النارية. إلى اليوم لا أصدق كيف اتسعت لنا نحن الثلاثة مع حقيبتين! وكُلما كررت استغرابي يُجيبني بالقول: "بيت الضيق بيساع ألف صديق". بلغنا المطار أخيراً. استقبلنا بصمت، فصالة الوافدين فارغة كما صالة المغادرين. لم نُعلّق، بل شاطرناه الصمت أيضاً إلى حين صعودنا على متن الطائرة. لم نتفاجأ لحظة وصولنا إلى مطار صبيحة في اسطنبول بمستوى التطور والتنظيم والنظافة. لم نفتح المجال في دردشتنا العابرة، ونحن ننتظر دورنا في "طابور" الواصلين لختم الجوازات لدى عناصر الأمن العام التركي، لأي مقارنة تُذكر. أنجزنا ما علينا سريعاً وانتقلنا للبحث عن سائق الأجرة الذي كان بانتظارنا. لحظة وصولنا إلى الفندق أبلغنا النادل أننا حظينا بواحدة من أجمل الغرف لديهم. تضاعفت حماستنا لبلوغها. كانت غرفة دافئة بألوان زاهية، فيها نافذة كبيرة مُطلة على مشهد قروي في عمق المدينة، حيث تنبسط أمام أعيننا اسطنبول ببيوتها القرميدية الحمراء ومياه مضيقها الصافية. على عكس معظم المدن اللبنانية، تنقشع السماء في العاصمة السياحية لتركيا، وتنكشف الأرض والشوارع والحدائق على وسعها، فلا ناطحات سحاب ولا أبراج ضخمة ولا فوضى معمارية تأكل منها وتشوهها.



كعك عصرونية


بين تقسيم وعزمي

شارع الاستقلال في منطقة تقسيم كان محطتنا الأولى. شارع عريض تتوزع المحال التجارية والمقاهي على جانبيه ويزدحم المارة في وسطه. هذا الازدحام هو نفسه من ساعات الصباح الأولى وحتى بزوغ الفجر. أقدام المارة وحدها تطأ المكان، لا سيارات ولا أصوات محركات أو زمامير تُعكّر صفو الأجواء، وحدها عجلات الترامواي تخرق صفوف آلاف المتراصين فيه لثوان على رأس كل ساعة. الشارع للمشاة فقط! رددت بيني وبين نفسي. هل فعلاً يُمكن للمدن أن تكون على هذا المستوى من التنظيم؟ تساءلت واستعادت ذاكرتي صور شارع عزمي في طرابلس. أوجه الشبه بينه وبين شارع الاستقلال كثيرة. لماذا لا يفتح عزمي ذراعيه لضم المارة ويُمنع فيه مرور السيارات؟ باستطاعته أن يكون شارعاً نموذجياً. تذكرت أيضاً ساحة التل، وسط عاصمة الشمال. لو تُنزع عنها مظاهر الفوضى وتُستأصل مواقف السيارات وتحوّل المحال التجارية العشوائية هناك إلى محال متخصصة منظّمة، ويُعاد ترميم المقاهي التراثية المحيطة بها ويُدعم أصحابها لتحسين نوعية خدماتهم، ولو يُفتتح بوسطها متحف يحكي سيرة المدينة الحافلة بالقصص. ياه يا طرابلس، كم فيكي من المقومات المُهملة! تخيّلوا لو أن شارع عزمي يستقبل آلاف السيُاح يومياً كما شارع تقسيم! حتماً ستكون طرابلس حينها سيدة نفسها، مدينة لا تحتاج منّةً. حتماً سيجد الكثير من شبابها فرص عمل وستتقلص مستويات البطالة التي قاربت نسباً خطيرة فيها وصلت إلى حدود 35 في المئة. حتماً ستنفض عن جسدها غبار الحروب وآثارها، وستظهر للعيان عروساً متألقة كما قدمتها الثورة.



اسطنبول من النافذة


حبيبي لا يعرف الكثير عن طرابلس. زارها مرات معدودة لدواعٍ مهنية. دأبت على نصب بذور حبٍ بداخله لهذه المدينة المحرومة. رحت أحكي له عن طرابلس التي تُشبه اسطنبول. أشرت له الى عربات بائعي الكعك والكستناء والذرة في ساحة تقسيم، هؤلاء الذين يجذبون المارة من دون أن ينادوا على بضائعهم. أعدادهم كبيرة لكنهم يتوزعون على نقاط محددة على طول الشارع، بحيث لا يُضارب أي منهم على الآخر. عرباتهم جميعها متشابهة، مطلية باللون الأحمر ونظيفة، يعلقون على طرفها لائحة الأسعار للزبائن. عندما تقترب تشتهي التذوق فعلاً، وما يُغريك أكثر هو أنهم لا يقدمون سوى منتج بلدهم: الكعك التركي الذي لا يُشبه أي كعك آخر، والكستناء التركية التي لا منازع لها، والذرة التركية التي نجد في لبنان من دون شكّ ألذ منها. يوجد في طرابلس الكثير من هذه العربات لكن الفرق شاسع. في طرابلس "كل مين إيدو إلو". البلديات غائبة لا بل عاجزة بالرغم من امتلاكها ميزانيات ضخمة، وبالتالي تشكو المدينة من غياب التنظيم. يتوزع أصحاب العربات فيها بشكل عشوائي وغالبيتهم يبيعون الكعك أو الترمس والذرة. العربات مهترئة وتفتقد إلى الحدّ الأدنى من النظافة. هل يُمكن لمدينة أن تجذب السياح وهي بهذا الحال؟. سألت حبيبي فلم يُجب.



لاجتذاب السوّاح


خلال ساعات النهار تمرّ بشكل دوري آليات لتنظيف الشارع في تقسيم، كما يُرابط عناصر من البلدية في وسطه لتقديم المساعدة لمن يحتاج. ليلاً، يبقى هؤلاء حاضرون أيضاً، فالشارع هنا لا ينام، على عكس طرابلس حيث تُغلق أبواب وسط المدينة في الثامنة مساءً. يبدو الشارع مناسباً للعيش الرغيد، فحتى مساحات السهر واللهو متوفرة للراغبين.


المترو: العيش تحت الأرض

بيُسرٍ يُمكن الانتقال من منطقة إلى أخرى داخل اسطنبول. لا يكترث الناس لزحمة سير أو أزمة محروقات فجميعهم يستقلون المترو. بالنسبة لي، كانت تجربتي الأولى في ارتياد "المدينة المتحركة تحت الأرض". لحظة الوصول إلى المحطة تستقبلك لافتة كبيرة مُعلقة على الحائط تستدل من خلالها على المكان الذي يجب أن تسلكه للوصول إلى المنطقة التي تريد. لا يطول انتظار المترو إذ يمر واحد كل ربع ساعة. لكن حتى وإن طال، لا مكان للملل هنا، إذ يتوزع في المحطة رسامون وعازفون ومغنون يقدمون ما لديهم للمارة، فيدعمهم هؤلاء برمي المال في سللٍ مخصصة لذلك. واحد من هؤلاء يرسم وجوه المارة، يعرض على الحائط مجموعة من رسوماته الرصاصية. تذكرت أن فتاةً من طرابلس حاولت القيام بشيء شبيه في حديقة "الماشية" وسط ساحة التل منذ سنوات، لكن "خفافيش" مزقوا لها رسوماتها، فعدلت عن الأمر. طبعاً، لو أنها عرضتها في المترو لكان الأمر مختلفاً. لكن قبل ذلك يجب أن يُجيبنا أحدهم ويفيدنا لماذا يبدو مستحيلاً إقامة مترو أو محطة قطار في المدينة؟ حسناً، ربما بالغت في أحلامي. دعوني أسأل ضمن الحدّ الأدنى لواقعية بلدنا، لماذا يبدو مستحيلاً أن تكون للمدينة شبكة طرق مقبولة وسيارات أجرة بهيئة واحدة وبتسعيرة واحدة وإشارات سير؟ لماذا يبدو مستحيلاً أن تتخلص طرابلس من زمرة الزعران الذين يتحكمون بسائقي الباصات والفانات المتجهة من طرابلس إلى عكار، ويتقاسمون معهم رزقهم ظلماً عبر ممارسات النصب والتشبيح؟ هل من يملك جواباً؟

سوق السمك: الذاكرة تحن إلى الميناء

من المترو نصل إلى منطقة غالاتا التي تقع على ضفاف البوسفور. يتجمع هنا عدد من الصيادين الذين يرمون شباكهم في المضيق. يجلسون من دون ضجة يراقبون المارة بانتظار أن تهتز سناراتهم. لا مجال للاصطياد بـ"الجاروفة" أو "الديناميت" فالقانون هنا حاضر ومُطبّق. نتابع سيرنا نحو الشارع الرئيسي حيث تنتشر المقاهي الفخمة المتخصصة بتقديم السمك. يشتري هؤلاء حاجاتهم من سوق السمك المحاذي. يصعب التكهن بوجود سوق للسمك في هذه المنطقة نظراً لرفاهيتها. والسوق عبارة عن خط طويل مسقوف تنتشر فيه مجموعة من المحال، كُتب اسم كل منها على لافتة رفعت فوقه، تعرض بضاعتها من الأسماك الطازجة. يسكب أصحاب المحال المياه فوق الأسماك بين الحين والآخر ويبدلون أماكنها. يلتزمون بسعر موحد ما يجعل منازعتهم عملية مجهدة. يختلف مفهوم سوق السمك هنا كثيراً عن ذاك المطبوع في أذهاننا كطرابلسيين. سوق السمك في الميناء يُفتتح بالضجيج ويُغلق أبوابه بالضجيج أيضاً. يعلو الصراخ بسبب الخلافات والمنازعات على الأسعار خصوصاً لحظة عرض الأسماك في المزاد العلني. لكن على الرغم من ذلك، يبقى لشراء السمك من الميناء نكهة خاصة. ففي اسطنبول غلبني الحنين إلى أصوات الصيادين وهم ينادون على صيدهم بلكنتهم الطرابلسية المحببة، ولباسهم المبلل برائحة البحر وأيديهم التي خطت عليها الإبر والسنانير آثاراً لا تزول.



صيد على ضفة البوسفور


الاتكال على الثورة

في رحلة العودة سألني حبيبي عما إذا كنت سأخبر رفاقي عن تجربة اسطنبول، فأجبت: "من دون شكّ. سأحكي لهم عن طرابلس". لا تتفوق اسطنبول على طرابلس إلا بما يقدمه لها المعنيون من ولاء. خلاصة عدت بها إلى لبنان وبت أرددها كل يوم. سحر اسطنبول أخاذ من دون شكّ، لكنه يُكلل يوماً بعد يوم باستثمار جاد وعمل دؤوب من قبل البلدية أولاً والحكومة ثانياً، وهو ما تفتقر إليه طرابلس المتروكة منذ سنين لمصير مجهول. اليوم قد يُفرط بعضنا بالتشاؤم بسبب تراجع الأوضاع الاقتصادية واشتداد الأمور تأزماً في عموم البلاد، وقد يُفرط آخرون بالتفاؤل بمساعدات خارجية بمثابة "المعجزات" لمساعدتنا على الخروج من عنق الزجاجة، لكن الأكيد أن هناك من يسعى بحذر المتفائل وخوف المتشائم إلى صنع تغيير ما. هؤلاء هم من سينقذون طرابلس ويجعلون منها يوماً ما اسطنبول لبنان.


MISS 3