حزب العمال البريطاني خسر الحرب الثقافية!

13 : 22

رئيس حزب العمال جيريمي كوربين
إنقسم الائتلاف الاجتماعي الاقتصادي الواسع الذي نجح سابقاً في تعويم حزب العمال إلى قسمَين، ما أدى إلى انهياره...

في بريطانيا، فاز رئيس الحكومة بوريس جونسون و"بريكست"، وحلّت كارثة كبرى على حزب العمال وزعيمه اليساري المتطرف جيريمي كوربين.

على الورق، كانت الظروف القائمة توحي بفوز حزب العمال. استلم حزب المحافظين السلطة منذ تسع سنوات، ويُعتبر جونسون شخصية مثيرة للجدل، وكشفت معظم استطلاعات الرأي أن شعبيته انهارت بالكامل. صحيح أنه تعهد بإخراج بلده من الاتحاد الأوروبي بحلول 31 تشرين الأول، مُهمّشاً بذلك نصف البلد الذي يريد البقاء في الاتحاد، لكنه فشل في تنفيذ وعده وخيّب آمال نصف البلد الآخر الذي يؤيد الانسحاب.

لكن في يوم الانتخابات، فاز حزب العمال بأصغر عدد من المقاعد في البرلمان منذ العام 1935. كان لافتاً أن يخسر دعم الناخبين المنتمين إلى الطبقة العاملة بعدما حظي بتأييدهم على مر أجيال طويلة، فصبّت أصوات منطقتَين كبيرتين شمالاً في مصلحة حزب المحافظين. تؤيد دائرة "روذر فالي" المعروفة بمواقع التعدين في جنوب "يوركشاير" حزب العمال منذ العام 1918، وقد فاز مرشّحه بـ77% من الأصوات في العام 1966. كذلك، يسيطر حزب العمال على بلدة "سيدجفيلد" البروليتارية في شمال شرق إنكلترا منذ العام 1935، وفاز توني بلير بأصوات 71% من الناخبين فيها في العام 1997. لكن أصبحت المنطقتان الآن بيد حزب المحافظين مع أنه عُرِف لفترة طويلة فيهما بـ"الحزب القذر".

وصل حزب العمال إلى هذا الوضع المريع لسببَين. يُصعّب التحول البنيوي فيه الحفاظ على التحالف الانتخابي الذي ضمن فوز الحركات اليسارية الوسطية في الماضي، وقد تبيّن أن رد كوربين على ذلك التحول البنيوي كان ساماً.

عندما كان حزب العمال قادراً على حصد أغلبيات انتخابية مقنعة، احتفظ بائتلاف واسع النطاق. كان يُعتبر حينها الخيار الطبيعي للطبقة العاملة وحظي بدعم الناس الأقل غنى وتعليماً. في الوقت نفسه، كسب دعم أجزاء واسعة من الطبقة الوسطى، فاستمال عدداً كبيراً من طلاب الجامعات وأساتذة المدارس وموظفي الخدمة المدنية.




صحيح أن هذين الجزئين من الائتلاف البرجوازي البروليتاري كانا مختلفَين دوماً في مواقفهما الثقافية، لكن لطالما جمعتهما قواسم مشتركة اقتصادية بارزة. إهتم الطرفان بزيادة الأجور ونشوء نقابات قوية، واتكل كلاهما على برامج الرعاية الاجتماعية لتحمّل تكاليف التعليم والاستفادة من الطبابة، وكانا يعلمان أنهما سيتقاعدان في ظروف لائقة.

طالما تمحورت السياسات الانتخابية حول المسائل الاقتصادية، نجح قادة حزب العمال في الحفاظ على تماسك هذا الائتلاف الواسع، وكسب عدد كبير من السياسات التي طرحها تأييد المعسكرَين، منها الإنفاق السخي على الرعاية الاجتماعية.

لكن خلال العقود الماضية، ابتعد هذا الاصطفاف الحزبي عن السياسة الاقتصادية واتجه نحو مسائل ثقافية، على غرار الهجرة وخطة "بريكست" طبعاً. فيما يتبنى ناخبو الطبقة الوسطى في المدن الكبرى مواقف متحررة من موضوع الهجرة ويعارضون "بريكست" بشدة، يميل الناخبون في الطبقة العاملة إلى انتقاد سياسة الهجرة ويؤيدون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. كذلك، كان معظم الناخبين الذين حوّلوا دعمهم الآن إلى حزب المحافظين في أوساط الطبقـة الوسطـى يؤيـدون الانسحـاب في استـفتـاء العام 2016.

يتخبط حزب العمال اليوم إذاً بين اتجاهين متناقضَين. يشعر عدد كبير من الناخبين في الطبقة الوسطى بأن الحزب ليس ليبرالياً بما يكفي في المسائل الثقافية. لذا يفضلون اللجوء إلى خيارات بديلة أكثر تحرراً، على غرار حزب الخضر. في الوقت نفسه، تظن شريحة كبيرة من الناخبين السابقين ضمن الطبقة الوسطى أن قادة الحزب يستخفون بآرائهم الثقافية. نتيجةً لذلك، فضّلوا التصويت لصالح المحافظين أو قاموا بخيارات بديلة أكثر تطرفاً، على غرار حزب "بريكست".

يمكن تفسير الانهيار البطيء الذي تشهده الأحزاب الاجتماعية الديموقراطية في بلدان غربية كثيرة بتحول المسائل الثقافية إلى موضوع أساسي ومثير للانقسام في السياسة الغربية. في ألمانيا وفرنسا، ومن إيطاليا إلى السويد، فشلت الأحزاب اليسارية الوسطية في نشر رسالة سياسية قادرة على لمّ شمل الائتلاف البرجوازي البروليتاري القديم.

إدعى كوربين أنه وجد الوصفة اللازمة لعَكس مسار الانهيار في معسكر اليسار: تبني نهج يساري متطرف. اعتُبِر برنامجه الاقتصادي الأكثر تطرفاً منذ أجيال، وكسب جزء من عناصره الفردية دعماً جيداً في استطلاعات الرأي. لكن بناءً على النتائج الأخيرة، لم يقتنع الناخبون من الطبقة العاملة بهذا الخطاب حول شرور الرأسمالية ومنافع الاشتراكية. في استطلاع للناخبين البريطانيين، شعر الناس بالقلق من نشوء حكومة محتملة بقيادة حزب العمال خوفاً من أن "تبالغ في مستوى الإنفاق وتزيد ديون بريطانيا". يتعلق أبرز سبب للقلق بتولي جيريمي كوربين رئاسة الحكومة.تشتق هذه النتيجة من مواقف كوربين الثقافية وبرنامجه الاقتصادي. على مر مسيرته السياسية الطويلة، لطالما صوّر بريطانيا كبلدٍ مبني على أعمق مظاهر الظلم واللامساواة، وعبّر في الوقت نفسه عن تعاطفه مع الحركات العنيفة والمتطرفة، بدءاً من الجيش الجمهوري الأيرلندي وصولاً إلى النظام الإيراني. وفيما وجد الوقت دوماً للتضامن مع حكام دكتاتوريين من أمثال هوغو تشافيز، بدا عاجزاً أو غير مستعد لتطهير حزبه من مظاهر معاداة السامية أو إقناع الناخبين بنيّته اتخاذ تدابير فاعلة لمعاقبة المجرمين والإرهابيين. بعد الهجوم الإرهابي الأخير في لندن، حمّل المسؤولية للسياسة الخارجية البريطانية!




في هذا السياق، أدلى صادق خان، عمدة لندن المسلم، بتصريح صادم منذ أيام فقال: "إذا كنا صادقين مع أنفسنا فعلاً، نعرف في أعماقنا أن قيادة جيريمي كوربين لم تكسب تأييد الشعب البريطاني وأننا ما كنا لنشكّل حكومة مع حزب العمال في الليلة الماضية على الأرجح. جاءت الهزيمة بهذه الضخامة بسبب فشل حزب العمال الصادم والمتكرر في معالجة معاداة السامية وعجزنا عن طرح مجموعة صادقة ومقنعة من أولويات الحكم... أصبح حزب العمال اليوم مستبعداً سياسياً وثقافياً أكثر من أي وقت مضى في الأوساط التي نشأ الحزب لتمثيلها".

في السنوات الأخيرة، اعتبر عدد من أبرز السياسيين والمعلقين النافذين والتقدميين في الولايات المتحدة كوربين قدوة يُحتذى بها. يقول رو خانا، عضو ديموقراطي في الكونغرس الأميركي من كاليفورنيا، إن استراتيجية كوربين اليسارية الشعبوية "ليست صائبة من الناحية الأخلاقية فحسب، بل إنها ذكية على المستوى الاستراتيجي أيضاً". وفي مجلة "نيويورك"، طرح جوناثان شيت لائحة طويلة وصادمة بأسماء النقاد والسياسيين الذين أدلوا بتصريح مماثل.

يُفترض أن تقضي هزيمة كوربين على تلك المواقف كلها. في النهاية، أثبتت رؤيته اليسارية المتطرفة أنها لا تضاهي النزعة الشعبوية الذكية التي يطرحها جونسون وتجمع بين التعهد بثورة ثقافية على أساس "بريكست" وبرنامج اقتصادي معتدل يَعِد بتجديد الاستثمارات المرتبطة بالمدارس وضباط الشرطة.

يتعين على الديموقراطيين في الولايات المتحدة أن يستخلصوا الدروس من هذه الأحداث. هم يواجهون خصماً أقل ذكاءً من بوريس جونسون ويستطيعون تحقيق انتصار قوي من خلال طرح رؤية تقدمية عن الولايات المتحدة لاستمالة الناس في أنحاء البلد. لكن إذا أصروا على تهميش التيار الثقافي السائد في الولايات المتحدة، قد يواجهون مصير حزب العمال بقيادة جيريمي كوربين.


MISS 3