عيسى مخلوف

أيّ ترجمة وأيّ إبداع؟!

8 تشرين الأول 2022

02 : 01

كَثُرَ الحديث عن الترجمة في الأيّام الماضية، بمناسبة اليوم العالمي للترجمة، والحديث عن هذا الموضوع الأساسي شاسع ومتشعّب. سأتوقّف، هنا، عند ترجمة الأدب، شعراً ونثراً، من خلال بعض الإشارات والتساؤلات.

ترجمة النتاجات الإبداعيّة فعل إبداع، لأنّ الترجمة المُبدعة ليست نقلاً، بل معرفة باللغة والثقافة، وبالقدرة على سبر غور النصّ والتقاط دلالاته العميقة ورؤية طبقاته الداخليّة والخارجيّة. كيف يُترجم الأدب من لا يمتلك حساسية أدبيّة ومعرفة بالأدب؟ وكيف يترجم الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانيّة من يجهل معنى الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانيّة، لغةً ومعرفةً ومصطلحات؟ رُبّ قائل إنّ هناك كتباً أدبيّة وفكريّة وفلسفيّة كثيرة نُقلَت إلى العربية في السنوات الأخيرة، وهي اليوم تملأ المكتبات. هل قُرئَت هذه الكتب؟ هل خضعت لقراءة نقديّة موضوعيّة لتكشف لنا عمّا وصل إلينا فعلاً من النصوص الأصليّة؟ وما الذي بقيَ فيها من تلك النصوص؟ بل هل هناك أعمال نقديّة موازية للترجمة؟ وأين نحن من نظريات الترجمة في العقود الأخيرة؟ هل هناك مدارس حديثة للترجمة على غرار المدارس المعروفة في عدد من دول العالم؟ هل هناك بحوث حول الترجمة، هذا العالم الفسيح الذي لا يُحَدّ؟ تساؤلات كثيرة يمكن طرحها في هذا المجال وعشرات الكتب المترجمة، سواء في الحقل الأدبي أم الحقل الفكري، لم يترجمها مترجمون أكفّاء، ولم يتردّد عدد منهم في حذف مقاطع وفصول منها لاعتبارات عدّة. وهذا ما ساهم في تشويه قسم كبير من النتاجات الأدبية والفكريّة المهمّة، وأوصلها إلى القارئ العربي مقطّعة الأوصال كأنّها خارجة من حرب. في هذه الحال، تصبح الترجمة عملاً آليّاً محضاً يغيب عمّن يقومون به معنى الترجمة ودورها الحقيقي.

في القرن التاسع عشر حلّق الشاعر الفرنسي شارل بودلير في ترجمته إدغار ألن بو. هكذا الأمر، في القرن العشرين، مع الكاتبة مارغوريت يورسونار في ترجمتها الشعرَ اليونانيّ القديم، ومع الشاعر إيف بونفوا، الذي نقلَ إلى الفرنسيّة شكسبير وييتس، وكذلك مع فيليب جاكوتيه الذي ترجمَ عن الألمانيّة ريلكه وهولدرلين، وجعلنا نظنّ أنّ هذين الشاعرين العظيمَين إنّما كتبا مؤلّفاتهما مباشرةً باللغة الفرنسيّة. وكذلك مع أدونيس الذي نقل إلى العربيّة سان جون بيرس ونَفَسَه الملحميّ، ورغم المآخذ التي تؤخَذ على دقّتها في بعض المَواضع، لكنها بدت كأنّها لغة ثالثة بين لغة بيرس ولغة أدونيس، ومدَّت اللغة العربيّة بإيقاعات وإيحاءات جديدة. أذكر هنا أيضاً ترجمات بسّام حجّار التي كشفت عن وعي بالآخر وثقافته.

يعتقد أمثال هؤلاء المترجمين أنّهم هم الذين يكتبون النصوص التي يترجمونها، يتوحّدون بها ويتماهون معها إلى حدّ الانصهار، كأنّهم من خلال ترجماتهم يعانقون اللحظة التي كُتب بها النصّ الأصلي، أو، كما يقول طه حسين، إنّ المترجم، في هذه الحال، إنّما يشعر بما شعر به المؤلّف.

لا تعكس الترجمة هنا قدرة المترجم اللغويّة (باللغتين طبعاً)، ومعرفة الثقافتين اللتين يتعامل معهما معرفة عميقة فحسب، وإنما أيضاً مدى تفاعله مع النصوص التي يترجمها. هذا المترجمُ العارف موجودٌ في العالم العربي اليوم، لكنّه يمثّل الاستثناء في القاعدة، ويمثّل النُّدرة.

لا تتوقّف الأمور عند هذا الحدّ، ذلك أنّ ثمّة نصوصاً عظيمة تُعاد ترجمتها من عصر إلى آخر: الترجمة التي نَشرتها دار النشر الفرنسيّة العريقة "غاليمار" لكتاب "الكوميديا الإلهيّة" لدانته، أعقبتها منذ سنوات ترجمة أخرى أكثر عمقاً وأكثر اقتراباً من روح النصّ. والأمثلة لا تحصى في هذا المجال. مع النصوص العظيمة، كلّ ترجمة هي احتمال قراءة جديدة. ومع تعدُّد ترجمات النصّ الواحد تتعدّد زوايا القراءات. يصبح الكتاب بلغته الأصلية جذعاً والترجمات أغصاناً في شجرة باسقة. يصبح الكتاب الواحد كتباً، كما الحال مع "دون كيخوته" لسرفانتس، ومع "ألف ليلة وليلة". كان جمال الدين بن شيخ الذي قدّم ترجمة جديدة لها بالتعاون مع المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل يردّد أمامي: "إنّها ترجمة القرن الحادي والعشرين"، وكان ذلك قبل أن يبدأ القرن الحادي والعشرون. وبالفعل، فإنّ الترجمة العصريّة لبن شيخ وميكيل لا تشبه الترجمات السابقة، بدءاً من ترجمة المستشرق الفرنسي أنطوان غالان مطلعَ القرن الثامن عشر، وكانت الترجمة الأولى في أوروبا. تلك الترجمة راعت الحساسية التي كانت سائدة زمن الملك لويس الرابع عشر واللغة التي كان يستسيغها سكّان قصر فرساي. ولماذا لا نلتفت هنا إلى ترجمة التوراة التي أشرف عليها النهضويّ بطرس البستاني في القرن التاسع عشر وسكبها بلُغة بدأت معها اللغة العربيّة الحديثة. معها بدأت وليس مع شعراء المهجر الذين تأثّروا بها وباللغات الأخرى التي عاشوا في كنفها، وفي مقدّم هؤلاء جبران خليل جبران.

فعلُ الترجمة إذاً هو فعل إبداع كما ذكرنا، يواكبه الشرح والتفسير والإضافة. وهذا ما وعاه كتّاب ومفكّرون عرب كبار في الماضي. هكذا كانت علاقة العرب مع الفكر اليوناني علاقة خصيبة، أنتجت ما أنتجته وما تركته من أثر على النهضة الأوروبيّة نفسها.

المشكلة الأساسيّة إذاً ليست في عدد الكتب المترجمة ومقارنتها بالكتب التي تُتَرجم في دول العالم أجمع اليوم، كما تفعل بانتظام تقارير التنمية الإنسانيّة العربيّة. المشكلة تكمن في نوعيّة الترجمات ومستواها العلمي، وتَراجُع هذه النوعيّة اليوم صورة لواقع الثقافة العربيّة في غياب سياسات وتخطيط ضمن استراتيجية متكاملة، وإلّا كيف تقوم الترجمة بدورها كصلة وصل بين الثقافات والحضارات؟ كيف يستقيم دورها في نهضة معرفيّة عربيّة بدون إعادة النظر في القواميس والمصطلحات، وإيلاء الاهتمام بالعلوم الطبيعيّة والعمليّة في ظلّ الثورة العلميّة والرقميّة، وحضور التقنية والتكنولوجيا في جميع القطاعات والمجالات؟


MISS 3