منير يونس

شركاء في الغنائم ولا علاقة لهم بالغرائم

«البنكرجية»: نحن أولاً... ومن بعدنا الطوفان!

12 كانون الأول 2022

02 : 00

الدولة تحمي البنوك برموش عيونها

تملأ جمعية المصارف المشهد (الفارغ من أي حلول جذرية للأزمة حتى الآن) بما تعتقد انه واجب التنفيذ، وخلافه برأيها لا يستحق النقاش ولا مجرد الوقوف عنده. وتطل بين الفينة والأخرى ببيانات كان آخرها ما نشره أمينها العام الدكتور فادي خلف الاسبوع الماضي تحت ما وصفه بـ»الفرضيات» و»الحقائق».

في جانب الفرضيات، النقاش مفتوح للجميع، اما تحت عناوين «حقائق»، فالجمعية تدّعي وحدها الحقيقة المطلقة، وهذا ما يجب محاولة تفنيده منهجياً بما تيسر من معطيات ووقائع.

لن تدفع البنوك من حقوق المودعين إلا 20% وما دون

أولاً: في معرض تناول قانون ضبط السحوبات والتحويلات ( كابيتال كونترول) تفضح الجمعية، في بيانها الأخير، نفسها عندما تؤكد انها لا تستطيع الوفاء بما ورد في مشروع القانون لجهة تحديد سقف السحوبات بمبلغ ألف دولار شهرياً. فرغم ضآلة المبلغ، الأقرب الى إعاشة منه الى حق السحب من الوديعة، تتمسك الجمعية بمندرجات التعميم 158 المريح جداً لها والمفصل على قياسها، والقاضي بدفع 800 دولار، منها 400 بالدولار النقدي مناصفة بينها وبين مصرف لبنان، والباقي بالليرة. بحسبة بسيطة، لا تلتزم المصارف بالدولار النقدي الا بنسبة 20% من الحد الذي يقترحه مشروع قانون الكابيتال كونترول، وتقول ان ذلك «من سيولتها». علماً بأن تعبير «سيولتها» غريب جداً، كما لو انها لا تعترف صراحة بأن هذا حق للمودع بل تصوره وكأنه منّة منها!

الأنكى يكمن في فجاجة صراحة الجمعية عندما تؤكد «ان تطبيق التعميم 158 ممكن لدى عدد من المصارف، وان كان الواقع لا يؤكد ان مجمل المصارف ستتمكن من متابعة تطبيق التعميم». بذلك، تكرر الجمعية أنها ضد الكابيتال كونترول في الشق المتعلق بالسحوبات بحدود 1000 دولار شهريا: فمن استطاع من اعضائها، يدفع 20% من المبلغ الهزيل، ومن تعذر عليه ذلك لا يدفع! ولا تكلف الجمعية نفسها عناء طرح البدائل، وكأن الأمر على هذ النحو ولا خيار آخر!


إمعان في جريمة الودائع المؤهلة وغير المؤهلة


ثانياً: يبدو ان التعميم 158 هو طوق النجاة الوحيد الذي تعترف به المصارف ولا تريد سواه. وهذا ما اذعن نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي وقبل به استناداً الى ما رآه مناسباً «مايسترو اللعبة» حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. ذلك التعميم غير القانوني والمفروض فرضاً تعسفياً على المودعين يحمل في طياته ما هو أخطر من ذلك بكثير عندما يصنف الودائع بين مؤهلة وغير مؤهلة. للمثال: المتقاعد المسكين الذي أصابه الهلع غداة 17 تشرين 2019 وطلب من مصرفه تحويل تعويض نهاية خدمته البالغ 150 مليون ليرة الى 100 الف دولار لحماية مدخراته من انهيار العملة، ليبقى هذا المبلغ سنداً له في خريف عمره وبؤسه، وجد نفسه اليوم في خانة غير المؤهل ولا يستطيع الافادة من التعميم 158. والأشنع ان سعادة الشامي صنّفه ايضاً، في خططه لرد الودائع، في هذه الخانة البائسة. على ان تعود وديعته بسعر أقل بكثير من سعر السوق. فما كان يعتقده هذا المتقاعد 100 الف دولار بات لا يساوي 20% بأسعار اليوم وأقل حتماً غداً. ولا يأتي مصرف لبنان ولا المصارف ولا الشامي على مسؤولية من سمح بالتحويل بدءاً من البنك الذي اتصل بالبنك المركزي واخذ غطاء التحويل. كل هؤلاء لا مسؤولية تقع عليهم، وليذهب المتقاعد المسكين الى الجحيم وهو في آخر عمره.

يتحدثون عن «استنسابية»... هم من مارسها بصفاقة أولاً

ثالثاً: في الشق المتعلق بنقاش المادة 12 من مشروع قانون الكابيتال كونترول، أي حماية المصارف من الدعاوى القضائية، تقول الجمعية «ان من يربح دعوى في الخارج هو مودع كبير يأخد من اموال المودعين الآخرين لا سيما الصغار منهم، وان تلك الدعاوى تجفف سيولة المصارف المفروض توزيعها بالتساوي على كافة المودعين وفق التعميم 158، وتصف ذلك بـ «الاستنسابية».

عن الاستنسابية المزعومة نفسها، يمكن ان نطرح على المصارف السؤال التالي: عندما حولتم الى الخارج مليارات الدولارات للسياسيين الفاسدين وللنافذين والمتسلطين، وحتى لأنفسكم من مصرفيين وملّاك بنوك وكبار تنفيذيين وصغار مديرين فيها... ألم يكن ذلك استنسابية؟ الم يكن ذلك على حساب عموم المودعين الآخرين لا سيما الصغار منهم؟ ألستم أنتم من بدأ الاستنسابية بأبشع صورها؟

ان حكم محكمة في الخارج هو حكم عادل بغض النظر عما يجري في لبنان من خزعبلات، اما محاباة النافذين لتحويل اموالهم الى الخارج فما هو الا جريمة اخلاقية ستبقى وصمة عار على جبين من تورط بها طالما بقي هناك نفَسٌ حي واحد في صدور المودعين المغلوب على أمرهم اليوم... ولا ندري غداً.


يريدون قضاءً عالمياً على شاكلة القضاء اللبناني الفاسد


رابعاً: تريد المصارف من القضاء الفرنسي او البريطاني الذي ينصف مودعين ان يكون على شاكلة القضاء اللبناني. ففي لبنان قضاة (ليسوا بقضاة بل خزمتشية عند زعماء) حموا المصارف من دعاوى المودعين المحقة. وما الاسقاط السريع والمعيب للحجوزات التحفظية التي حصل عليها بعض اللاجئين الى قضاة نزيهين في فترة من فترات الأزمة الا خير دليل على كيفية تعاطي القضاء اللبناني الكارثي مع المودعين كما لو انهم مدعو صفة مشبوهون لا اصحاب حق بيّن. وهذا القضاء يضرب بعرض الحائط، وبصفاقة شديدة، عدالة حصول المودع على حقه بالعملة التي أودع بها أو بما يوازيها بالليرة وفق القيمة السوقية. ودرج على قبول سداد بـ»هيركات» بين 60 و85% من الحق الاصلي، وسمح للبنوك باقفال حسابات ومنح المودع شيكاً مصرفياً لا تساوي قيمته السوقية اكثر من 15%.

وعندما تقول المصارف في بيانها الأخير ان «الدولة تقف موقف المتفرج» تنسى او تتناسى فضل هذه الدولة المتواطئة مع البنوك وكيف انها خدمتها خدمة العمر في كف يد العدالة عنها وعن ممارساتها.

مصلحة البنوك في تضييع الوقت... والمسؤوليات


خامساً: وفقا لبيان الجمعية بتوقيع الدكتور فادي خلف، فان المصارف «لا تريد استمرار الوضع على ما هو عليه بهدف تذويب الودائع، وان مصلحتها في تسريع اقرار قانون لإعادة التوازن المالي ( توزيع الخسائر) واعادة هيكلة المصارف».

كلام يندرج في اطار قول حق يراد به باطل. بداية، فان مرور أكثر من 3 سنوات من دون حلول جذرية اتى في مصلحة البنوك أولاً وأخيراً، بفضل تواطؤ من مصرف لبنان بحجة عدم افلاس أي بنك، بيد أن الإفلاس واقع لا محالة لو طبقت معايير بازل 3 والمعيار المحاسبي الدولي التاسع. فمعظم البنوك فاقدة للملاءة وللسيولة، ولا تعيش (عيشة الزومبي) الا بدعامات رياض سلامة وهندساته الشهيرة التي لا تمت للممارسات الدولية السليمة بصلة. واذا كانت المصارف استطاعت العيش على هذه الحال 3 سنوات، فلا بأس لديها من تمرير سنوات أخرى تمعن فيها في ممارسة ضغوطات لتأتي الحلول الجذرية في مصلحتها، لا سيما تحميل الدولة الجزء الأكبر من الخسائر، فالمعركة بالنسبة اليها تستحق مرور الزمن مهما طال!

فالوقت الذي تدعي المصارف انه ليس في مصلحتها وانها تستعجل فيه الحلول الجذرية سريعاً كما تدعي، هو نفسه الذي أفادها ويفيدها حتى تاريخه مع تدجين الناس بشكل منهجي يومي على عدم فتح أي باب للمساءلة ونافذة للمحاسبة. فمع مرور السنوات، ثمة رهان على ان يفقد الناس طاقة الصبر وادوات المقاومة. ويسلم اصحاب الحق بالأمر الواقع الذي يكرس افلات المجرمين من العقاب سواء كانوا في سدة الدولة او المصارف او مصرف لبنان، كما لو ان الأزمة كارثة طبيعية وليست من فعل بشر مسؤولين معروفين بالأسماء والعناوين. والمتابع لبيانات جمعية المصارف، منذ بداية الازمة الى اليوم، لن يرى أي مطالبة بالمحاسبة والمساءلة، شأنهم (البنكرجية) في ذلك شأن حاكم مصرف لبنان وشأن السياسيين الفاسدين المتسلطين على رقاب الناس بالبلطجة والسلاح والمحسوبية والزبائنية والطائفية والتواطؤ المصلحي الحامي للأوليغارشية السياسية والمالية والمصرفية والأمنية والقضائية والادارية، والملتقية دوماً على حماية رأسها واطرافها مهما كانت تناقضاتها، وخير مثال ما يجري في لجنة المال والموازنة التي تضم الجميع من دون استثناء.

وعندما تتحدث المصارف عن مسؤولية الدولة، فانها عمداً تجهّل الفاعل. ولا تأتي على ذكر اي كان في هذه الدولة، كما لو ان المسؤول شخصية اعتبارية وهمية من كوكب المريخ لا علاقة له بمصرف لبنان ومجلسه المركزي ومفوض الحكومة فيه ووزارة المالية ولجنة الرقابة على المصارف، فضلاً عن مسؤوليات تاريخية تقع على حكوميين وضعوا سياسات تنفيذية كارثية وآخرين مشرعين سهلوا القوانين الملتوية والمعيبة في مجلس النواب.


البنوك مع شطب الودائع... او تحميلها للمجتمع بأسره


سادساً: تدعي المصارف انها ضد شطب الودائع، فيما الواقع خلاف ذلك تماماً، والا كيف يفسر الهيركات القاسي الذي تمارسه البنوك على عملائها، وكيف يفسَّر اذلال المودعين بسقوف متدنية ومبالغ زهيدة وتذويب نحو 27 ملياراً حتى الآن من الودائع الدولارية بأبخس الأثمان؟

وعن صندوق استرداد الودائع ترفض المصارف القاء عبء تمويله عليها، بحجة وردت في البيان الاخير رددت وراء رياض سلامة ان الدولة استهلكت 62.7 مليار دولار من أصل فجوة الـ 73 ملياراً، ما يعني ان على الدولة تحمل 86% من الخسائر! والسؤال البديهي هو اين يظهر هذا المبلغ في ميزانية البنك المركزي؟ الجواب انه لا يظهر البتة! السؤال الثاني، لماذا غامرت المصارف واودعت او استثمرت في شهادات الايداع في مصرف لبنان ما يساوي 70% من اموال المودعين؟ الجواب المصرفي المضحك المبكي: «اجبرونا على ذلك»، من دون ذكر 85 مليار دولار فوائد دفعت على الدين العام ذهب معظمها للمصارف واصحابها وكبار مودعيها. كما لو ان البنوك شريكة في الغنيمة الدسمة ولا علاقة لها بالغريمة الوسخة!

وتريد المصارف تمويل صندوق استرداد الودائع من مردود مشاريع شراكة بين القطاعين العام والخاص وتخصيص قسم من الموارد النفطية والغازية المتوقعة. والأشد قبحاً رفض البنوك المشاركة في تمويل الصندوق ولا حتى القبول صراحةً بتحويل ودائع الى اسهم ملكية مصرفية. وهنا نتحدث عن عشرات المليارات من الدولارات من المال العام المفترض تحصيله عبر صندوق الاسترداد لمصلحة 1 الى 2% من السكان، ولا عزاء لبقية ملايين المواطنين واجيالهم المقبلة. ولا تتوانى الجمعية عن القول ان أموال المودعين هدرت لأن القطاع العام استهلك اموال القطاع الخاص. لكنها لا تقول لنا لماذا بقيت تلعب هذه اللعبة القاتلة طيلة 30 سنة؟ وما هي ارباحها منها ؟


إدعاء فارغ في تأييد الإتفاق مع صندوق النقد


سابعاً: تدّعي المصارف انها تؤيد الاتفاق مع صندوق النقد، لكنها تعتبر الاتفاق عبارة عن «منيو» MENU تأخذ ما يحلو لها وتترك الباقي. فلا نسمع منها شيئاً عن مطلب التدقيق في بنية الودائع ولا عن بديهية البدء بتحميل مساهمي المصارف المسؤولية من رساميلها، ولا تعليق لديها على ما ورد في الاتفاق مع الصندوق بهدف اطلاق محاسبة أو مساءلة ما ستصل حتماً، لو اجريت بنزاهة، الى ثرواتهم وقصورهم ويخوتهم وحساباتهم المتخمة في بنوك اجنبية... وهنا بيت القصيد، فاللبنانيون يفتقرون ليبقى «البنكرجية» في أوج بطرهم على انقاض الجميع بلا استثناء.


MISS 3