مجيد مطر

"الأهالي"... المصطلح المهذّب لفرض الهيمنة

17 كانون الأول 2022

02 : 00

إنتهكت حادثة العاقبية الدموية، التي أدّت إلى سقوط إصاباتٍ بين قتيلٍ وجريح في صفوف قوات «اليونيفيل»، هيبة الدولة اللبنانية في ثلاث من وظائفها السيادية: الوظيفة الدبلوماسية، الوظيفة الأمنية والوظيفة القضائية.

دبلوماسياً، معلوم أنّ «اليونيفيل» متواجدة في الجنوب اللبناني بناءً على طلب الدولة اللبنانية لمساعدتها في بسط سلطتها على كامل أراضيها وتأمين حدودها، لكونها صاحبة الاختصاص حصراً في تحديد عمل تلك القوات من خلال مرجعية القرارات الدولية. فهي الوحيدة التي تملك ميزة إعطاء الوصف القانوني والسياسي لعمل تلك القوات من دون مشاركة من أحدٍ، كائناً من كان. وهذا يقع في صلب الأعمال السيادية للدولة.

أمنياً، يُعتبر الجيش اللبناني الجهة الشرعية المنوط بها التنسيق الأمني لتحرّكات قوات «اليونيفيل» شمال وجنوب خط الليطاني. فـ»اليونيفيل» قوات صديقة، ولا يمكن معاملتها الّا على هذا الأساس، فرغم العدوانية الإسرائيلية، ظلّت تلك القوات مصدر أمنٍ وأمان للجنوب وسكانه، فضلاً عن فوائدها الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة، إن لناحية ما تنفقه من العملات الأجنبية، أو من خلال ما تقدمه من مساعداتٍ على مختلف الصعد. العبرة في هذا المقام، إمّا ثقة بالجيش أو لا ثقة. أمّا في ما يتعلق بالوظيفة القضائية، فهي الأهم كونها ترتبط بأساس ما يُبث من تبريرات لذلك الاعتداء المدان وغير المبرر، الذي أدى إلى موتِ جنديٍّ يصنّف في خانة الأصدقاء، أثناء قيامه بواجبه الإنساني، برضى وقبول من السلطة اللبنانية، فهو اذاً في حمى وحماية الشرعية اللبنانية المسؤولة عن سلامته وسلامة رفاقه. فأخطر ما في الموضوع هي رواية «الأهالي» التي صوّرت دورية «اليونيفيل»، ولمجرد أن ضلّت طريقها، أو سلكت طريقاً مغايراً، انطلاقاً من حرية التنقل المتاحة لها، على أنها دورية احتلال معادية، فأطلقت عليها النيران مباشرة بنية القتل العمد، لا لمجرد التخويف. ففي سياق المشهد العام، هي جريمة مكتملة الأركان. بمعنى آخر لقد تمّ قتل الجندي الايرلندي لمجرد الشبهة، من دون تبصّر أو دليل، باعتباره، بحسب ما يشتبهون، يقوم بمهام تجسسية أو أمنية لصالح العدو. ففي هذا القتل المجاني، انتُهكت مبادئ العدالة المقرّة في مبادئ حقوق الانسان والمواثيق الدولية، التي تنصُّ على أنّ كلَّ متهم بريء حتى تثبت إدانته.

فهذا الانسان البريء، قد تمّت محاكمته ميدانياً وأُعدم رمياً بالرصاص عن طريق الغدر والتربص، من دون أن يُعطى حتى حق الدفاع عن نفسه. ما حدث يمثّل انزياحاً بالدولة اللبنانية نحو شريعة الغاب، واستخفافاً بمنطق العدالة، وانتهاكاً للحق بالحياة كأساس لكلّ الحقوق، هذا بمعزلٍ عن التداعيات السياسية للحادثة داخلياً وخارجياً، إذ سريعاً اعتبر رئيس الوزراء الايرلندي أنّ «اليونيفيل» تعمل في بيئة معادية. لقد سبب من قام بتلك الجريمة أو من حرّض عليها، بأضرارٍ جسيمةٍ للجنوب وأهله، ستبرز آثارُها في المستقبل القريب. إنّ استخدام «الأهالي» كوكيلٍ عن الأصيل، ليس بالأسلوب المبتكر، فالنازية استخدمت المواطنين العاديين في بثّ دعايتها، حيث صار هذا المواطن ينطق بلسانها ضدّ خصومها على نحو أكثر قساوة وإلغائية من السلطة نفسها، فينوب عنها حيث تقرر أن لا تكون.

الحادثة كاختبار ولاء

يتطلّب من المرء أن يكون شديد البراءة، كي لا يسأل عن توقيت الحادثة، علاوة على الرسائل التي تحملها على المستويين الخارجي والداخلي. فبعد انجاز ملف الترسيم الذي قدّم فيه «حزب الله» تنازلاً موصوفاً لا لبس فيه، وبما أنّ ما قبل الترسيم ليس كما بعده، فالثمن الذي يريده «الحزب الممانع» سيطرة كاملة على الجنوب، من دون شراكة من أحد، وتحقيق ذلك يتطلب تحجيم حرية تنقل قوات «اليونيفيل»، فتم ذلك مواربة عن طريق استخدام «الأهالي»، أي الاسم المهذب لفرض الهيمنة والسيطرة على الجنوب وأهله، من دون تمييز بين مؤيد له أو معارض.

أمّا على المستوى الداخلي، فتبدو هذه الحادثة وثيقة الصلة بالاستحقاق الرئاسي، إذ يراد منها أن تكون وسيلة لاختبار ولاء المرشحين القريبين، تحديداً من «الحزب» القائد، الذي أعلن إنه يريد رئيساً يطمئن «المقاومة» التي سيراقب قادتها حجم ونوعية ردود الأفعال التي تصدر عن المرشحين أو التي قد لا تصدر، وبناء عليها يُبنى على الشيء مقتضاه. فذاك «الحزب» يطمح أن يحظى برئيس من قماشة اميل لحود إذا أمكن، واذا لم يتوفّر، فلا سبيل من الخضوع للفحص العام والشامل لكافة المرشحين قبل أن يقوم بتسمية مرشحه المرهون بنتيجة اختبار الولاء.

ختاماً، لقد تزامنت هذه الحادثة مع نقاش يدور حول مجموعات أهلية بدأت تتشكل لحماية البيوت والأرزاق، فتم اتهامها بأنها تقيم أمناً ذاتياً يتجاوز دور الدولة.

مع أنّه شتّان بين هذا وذاك، وكي لا نقع في دوامة المعايير المزودجة، نؤكد على دور الدولة في القيام بواجباتها في حماية المواطنين وأرزاقهم على كلّ الأراضي اللبنانية، من دون تمييز بين منطقة أخرى، وأن تقوم بداية وقبل كل شيء في تحقيق العدالة لهذا الجندي الأممي البريء، والكشف السريع عن ملابسات الحادثة، التي كنّا في هذه الظروف الصعبة، بغنى عنها.