فادي جلوان

وهْمُ الثورة وواقع الحَراك والخيبة والأمل ما بينهما

21 كانون الثاني 2023

02 : 00

تسعةٌ وثلاثون شهراً على 17 تشرين. تسعة وثلاثون شهراً تكامل فيها العقل والإنفعال حيناً وتصارعا أحياناً. ربما هي سُنّة السياسة في الديموقراطيات المزيّفة، حيث لا ديكتاتورية معلنة ولا ديموقراطية فعلية.

في 17 تشرين ومَضَ نورٌ في آخر النفق، فعاش الناس لحظة نشوة مبررة إنسانياً كونها متأتية من الإحساس بقرب تحقيق الحلم بوطن. في تفاعلٍ بشري طبيعي توقف العقل لبرهة واحتل الإنفعال كامل مساحة الكيان. كيف لا وهي ثورة «لبنان ينتفض» على «كلّن يعني كلّن»..

لكن مهلاً... أما آن لنا، بعد تسعة وثلاثين شهراً، أن نعيد للعقل بعضاً من دَور؟ كثرٌ، وحفاظاً على ما تبقّى من نشوة، لا يجرؤون على طرح السؤال: «هل هي ثورة أم هو حَراك؟».

للإجابة عن السؤال «المزعج»، لنعُد إلى التعريف العام لكلٍ من المصطلحين. فالحَراك عملية طويلة الأمد تسعى إلى إحداث تصحيحٍ للإنحرافات الاجتماعية والسياسية، وتعمل على نقل أفكار ومفاهيم مجموعة محدّدة إلى مجموعات أخرى، وهو - أي الحراك - في الكثير من الحالات يتبع نوعاً من الأيديولوجيا وغالباً ما يبتعد عن العنف بمعناه الحقيقي. أما الثورة فتهدف إلى الإطاحة بالحكومة أو تغيير النظام ولا ترتبط بأيديولوجيا محدّدة، ويكون العنف جزءاً منها. فالثورة التي لا تغيّر ما كان قبلها هي ليست أكثر من انتفاضة أو حَراك.

وما من تعبير أقوى عن الثورة من جواب القائد العسكري للملك لويس السادس عشر عندما سأله عشية الرابع عشر من تموز 1789 بعد سقوط الباستيل: «أهذا تمرّد؟ « فأجاب القائد: «كلاّ يا صاحب الجلالة، هذه ثورة».

إذا عكسنا ما تقدّم من توصيفات على ما شهده لبنان خلال الأشهر الـتسعة والثلاثين المنصرمة، فكيف نقيّم تلك الحالة؟ هل أخطأنا بتقدير حجم ما قمنا به في الشارع؟ هل كان علينا أن ندرك أن ثورةً «كاملة» هي مستحيلةُ التحقيقِ في بلد يُضطر حتى المتحررون من أبنائه إلى استنباط أساليب متنوعة للدفاع عن فكرة بنّاءة أو للتسويق لمسعى إذا ما تحقق لاستفاد منه الجميع؟ (وليس شعار «كلّن يعني كلّن» إلاّ مثالاً صارخاً، حيث المناداة به جاءت لتؤكد على «وطنية» الحلم بوطن!).

في هكذا بلد ربما كان علينا خفض سقوف الآمال قليلاً. ربما كان من الأفضل أن نصارح أنفسنا بأنّ ما نقوم به على الأرض هو حَراك مبني على سياسة القضم الهادئ... فنستمر. ربما كنّا تجنّبنا إحباطاً أصاب البعض بعد تغيّر المشهد في الشارع، بصرف النظر عن تعدد الأسباب. والإحباط ينسحب على فصل آخر من مسار تحقيق الحلم... فصل الانتخابات النيابية.

أخطاء "التغييريين"

قليلٌ من الوعي يحتّم علينا، بعد ثمانية أشهر على تلك الإنتخابات، إجراء تقييم جدّي وعقلاني بعيداً عن الإنفعال. تقييم يحتاج إلى جلسات مطوّلة ومعمّقة طبعاً. لكن نظرةً سريعةً وتحليلاً واقعياً للمرحلة المنصرمة يدفعاننا إلى الإعتراف بأخطاء كثيرة ارتُكِبت إبان التحضير للإنتخابات، من اصطفافٍ على حدود النقاء في ادعاءٍ مجبول بلغة خشبية يلامس الأصولية، إلى اصطفافٍ فوق موجة المطالب يجسّد قمّة الوصولية، وانسحاق العقل بين الإصطفافين.

كما يجب الاعتراف بأخطاء النواب «التغييريين» وضعف أدائهم بشكل عام لاحقاً، بصرف النظر عن نواياهم (نترك الحكم عليها لوقتٍ يجب أن لا يكون بعيداً). فمن عجزهم عن وضع حَوكمة داخلية بسيطة لتنظيم تشعّب رؤاهم لبعض المواضيع، إلى الإنجراف نحو الإستعراضات الإعلامية والفايسبوكية التي لامس بعضها «الولدنة»، مروراً بخضوع عدد منهم لسلطة «المرجعية الدينية» خوفاً على حفنة أصواتٍ جرّتهم إلى مستنقع الطائفة بدل أن يجذبوها إلى رحاب الوطن، من دون أن ننسى متصنّعي الكمال والطهارة ممن يصطادون زميلاً «تائهاً» أو يتنقلون بين حاضنة وحاضنة، غير عابئين بمكانة ناخبيهم ورأيهم، والأهم هو عجزهم حتى الآن عن تقديم مشاريع بديلة جدّية ومتينة يُبنى عليها لتوسيع قاعدة المؤمنين بالتغيير. وعندما تمخّض جبلُهم أنجب مبادرةً رئاسية جميلةً إنشائياً، مثالية للتدريس في صف التربية المدنية لكنها مستحيلة التطبيق عملياً، فرضَت عليهم زيارة مقرات أحزاب المنظومة والجلوس مع مُتهَمين في ملف جريمة تفجير المرفأ ومع جميع أركان المافيا الحاكمة ممن أوصلونا إلى هذا الدرْك، مقابل صفر مردود سياسي ووطني.

ليس ما تقدّم جلداً للذات إنما هو تقييم ونقد ذاتي بنّاء، إذ ما زال السواد الأعظم من المؤيدين للحالة التغييرية يعتبر أنّ أسوأ نائب تغييري يبقى أفضل من أفضل الآخرين، ولكن حذار التعويل على التبعية العمياء عند جمهور التغيير فهي نادرة الوجود، وصبر هذا الجمهور على وشك النفاد.

يبقى أن نعود إلى القاعدة. والقاعدة تقول إنّ الأمل ينبع من جرأة وإقدام 330 ألف لبناني متحرّر اقترعوا لخيار التغيير ولم يرضخوا لترغيب أو ترهيب ولا تأثروا بإعلام موجّه ولا خضعوا لضغط أجهزة. تقبع الثورة في عقول هؤلاء وضمائرهم، وعند آخرين التزموا بيوتهم في 15 أيار لأنّ القيّمين على الحَراك لم يعرفوا كيف يجتذبونهم إلى صناديق الإقتراع، وهم كثر.

نعم، ثورتنا تقبع في العقول لأنها ليست ثورة جوع بل ثورة كرامة ركيزتها الأساسية قيمة الإنسان الفَرد.

إن تجربة الشعوب الحيّة تؤكد أنّ الخيبة مهما بلغ حجمها لا يمكن أن تدوم لأنّ الثورات إمّا أن تنتصر أو تعود لتهب بعد حين... لكنها لا تموت.

(*) ناشط سياسي