ديفيد فولوذكو

سكّان تيغراي يحتاجون إلى خطة آمنة للعودة إلى منطقتهم بعد حرب آبي

25 كانون الثاني 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

هاربون قادمون من تيغراي في مطار أديس أبابا الدولي | إثيوبيا ، في 28 كانون الأوّل 2022

بعد سنتين من الحرب الإلغائية، بدأ سلام هش يترسّخ في إقليم "تيغراي"، في شمال إثيوبيا. سلّمت القوات المحلية، بقيادة "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي"، الدبابات والصواريخ إلى الجيش النظامي كمبادرة حُسن نيّة. في غضون ذلك، بدأ مقاتلو "أمهرة" ينسحبون من المنطقة. لكن يبقى هذا التعافي محفوفاً بالمخاطر، فهو يفرض على الحكومة المركزية اليوم أن تتحرّك لضمان سلامة اللاجئين العائدين إلى مناطقهم.


بدأت الحرب أصلاً حين أصدر رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، أمراً غير دستوري، في حزيران 2020، لتأجيل الانتخابات المحلية بحجّة تفشّي جائحة كورونا، ثم أعلن تعبئة عسكرية وهدّد علناً بإسقاط قيادة "تيغراي" بعد إقدامها على إجراء الانتخابات رغم كل شيء. ثم هاجمت "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" (إنها الميليشيا الإقليمية التي حكمت إثيوبيا بين العامين 1991 و2018) مقرّ القيادة الشمالية لقوة الدفاع الوطنية الإثيوبية في "ميكيلي"، في بداية تشرين الثاني 2020، وأعلن آبي عن إطلاق "عمليات لإنفاذ القانون" حيث تتوغّل القوات النظامية من الجنوب وتأتي قوات إريتريا الحليفة من الشمال. نتيجةً لذلك، اندلعت حرب مصحوبة بحصار كامل طوال سنتين، وترافق الصراع مع حرمان المنطقة من الكهرباء، والإنترنت، والخدمات المصرفية، والمواد الغذائية، والإمدادات الطبية. هكذا استُعمِل الجوع كسلاح بحد ذاته في الحرب، ووقعت النساء من جميع الأعمار ضحية الاغتصاب، وأصبحت المجازر العرقية شائعة.



في تعليق خطير حول احتمال معالجة مشاكل اللاجئين، أعلن آبي في خطاب أمام أعضاء البرلمان، في أواخر تشرين الثاني 2020، بعد أسابيع على بدء الحرب: "لا وجود لأي نساء أو أولاد بين اللاجئين في السودان". تجدر الإشارة إلى أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة ذكرت أن أكثر من 7 آلاف لاجئ، من نساء وأولاد ورجال، هربوا من "تيغراي" إلى السودان خلال أول يومَين فقط بعد بدء الحرب.


حتى لو غيّر آبي موقفه، فلن يكون هذا التحوّل كافياً لوقف القتال وترك المجال مفتوحاً أمام مختلف الخيارات، لأن جزءاً كبيراً من سكان "تيغراي" لم يعد يملك أي منزل للعودة إليه. لم تُهدَم المنازل بالكامل فحسب، بل أصبحت مساحات "تيغراي" بمعظمها اليوم غير صالحة للسكن نظراً إلى قلة المواد الغذائية أو الخدمات الطبية. في الوقت الراهن، يحتاج 13 مليون شخص في أنحاء شمال إثيوبيا إلى المساعدات الغذائية، وفق أرقام برنامج الغذاء العالمي. كذلك، اضطرّت المستشفيات لرفض استقبال الناس، وتعرّض حوالى 70% من المنشآت الطبية للنهب بين منتصف كانون الأول 2020 وبداية آذار 2021. في الوقت نفسه، استولى لاجئون من منطقة "ميتيكل" في شمال غرب إثيوبيا، أو من "الفاشاغا" في السودان، على أملاك كثيرة في غرب "تيغراي" غداة المجازر والنزاعات الحدودية في تلك المناطق.



إذا أراد آبي أن يضمن سلامة العائدين، فلا مفر من انهيار جهوده بسبب غياب ثقة سكان "تيغراي" بقوات الدفاع الوطنية الإثيوبية، فقد ارتكب عدد من عناصرها أعمالاً وحشية في المنطقة. كذلك، لن يرغب آبي في تقوية "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" ومساعدتها على تأمين المواد الغذائية أو أي ضرورات أخرى، بل يُفترض أن يتكل على برنامج الغذاء العالمي الذي يتعاون أصلاً مع برنامج عمليات الطوارئ المشتركة التابع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية لتوزيع حُزَم غذائية طارئة في "تيغراي"، و"أمهرة"، و"أوروميا". لكن لا يمكن أن تنشط هذه الجماعات إلا بدعوة من الحكومة المركزية.



لا تتعلق أكثر المسائل إلحاحاً اليوم بالأزمة الإنسانية فحسب، بل بالوضع الاقتصادي أيضاً. تُعتبر إثيوبيا من أفقر دول العالم، إذ يبلغ فيها نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي 960$، أي ما يساوي حوالى ثلثَي الدخل في هايتي. لكن يخفي هذا الفقر المدقع قدرات هائلة. لا يزال البلد من أكبر اقتصادات أفريقيا، وهو ثاني أكبر بلد من حيث العدد السكاني بعد نيجيريا. في العام 2019، بلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي حوالى 9%، وهو خامس أعلى معدّل في العالم. لكن بسبب الحرب، تراجع هذا النمو إلى 4.8% في العام 2022. كذلك، انخفض التصنيف الائتماني لإثيوبيا بدرجة هائلة، فبات البلد يعجز عن اقتراض الأموال لتنفيذ مشاريع البنى التحتية العامة التي رفعت مستوى نموه سابقاً.



يستطيع آبي أن يدفع ديون البلد عبر متابعة الخصخصة، فيبيع مثلاً تراخيص تشغيل شركات السكر أو الاتصالات ويأخذ قروضاً يستطيع تسديدها من البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية. لكن حتى لو تمكنت إثيوبيا من تسديد ديونها، يبقى اقتصادها هشاً. في العام 2022، بلغ التضخم فيها مستوىً غير مسبوق منذ عشر سنوات، وواجه البلد أسوأ موجة جفاف في آخر أربعين سنة، وتستمرّ التداعيات الاقتصادية الناجمة عن أزمة كورونا المتواصلة والغزو الروسي لأوكرانيا. أدّت هذه العوامل كلها، تزامناً مع احتدام الحرب في "تيغراي"، إلى زعزعة سلاسل الإمدادات المحلية وتحليق كلفة المواد الغذائية. بلغ متوسط تضخّم أسعار الغذاء 17% خلال العقد الماضي، ثم وصل إلى مستوى غير مسبوق (44%) في أيار 2022. هذه الأرقام قد تطلق حرباً جديدة.



بعبارة أخرى، كرّر آبي الخطأ الذي ارتكبه حكّام دكتاتوريون آخرون، من أمثال الرئيس الصيني شي جين بينغ أو زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، فأهدر القدرات الاقتصادية الكبرى مقابل مكاسب متواضعة تسمح له بفرض سيطرته السياسية. قد يميل آبي إلى إقناع نفسه بأن إثيوبيا تستطيع اللجوء إلى الصين دوماً كخيار بديل، لكن تبقى التجارة مع الولايات المتحدة أساسية لصمود الاقتصاد الإثيوبي، وستكون أي عقوبات أميركية إضافية كارثية. يظن بعض الخبراء أنه أبرم اتفاق السلام لسبب واحد: تجنّب أي عقوبات أخرى وجعل البلد مؤهلاً لتلقي القروض الأجنبية. إنه تفكير منطقي، إذ تشير تقديرات الحكومة المركزية إلى حاجة البلد إلى 20 مليار دولار لإعادة بناء "تيغراي" ومناطق أخرى مزّقتها الحرب، ويساوي هذا المبلغ 18% من الناتج المحلي الإجمالي الكامل في إثيوبيا.



لهذا السبب، سيكون الترحيب بسكان "تيغراي" العائدين أكثر من مجرّد مسألة أخلاقية. تحتاج حملة إعادة بناء الاقتصاد، إقليمياً ووطنياً، إلى رأسمال بشري. لحسن الحظ، قد تسمح البنية التحتية التي تؤمّن المساحات المناسبة لعودة الناس بإرساء استقرار ينعكس إيجاباً على الاقتصادات المحلية. تشمل هذه الجهود بناء مستشفيات ومدارس، فضلاً عن تطبيق مسارات واضحة لتوظيف العائدين ودعم الشبكات التي تساعد الناس على الاستقرار مجدداً في تلك المناطق وتسهم في زيادة النمو المحلي. يتطلب هذا المشروع عوامل مثل مساعدات في قطاع النقل، وهبات في مجال الإسكان، وعلاجات نفسية، وتدريبات مهنية، بما في ذلك حملة لبناء يد عاملة مؤلفة من أعراق متنوّعة لدعم التعاون العرقي.



تبقى هذه الحلول متوسطة المدى، فهي تُركّز على آخر ثلاثة عوامل من أصل أربعة لضمان رجوع اللاجئين: العودة إلى الوطن، إعادة الاندماج، إعادة التأهيل، إعادة البناء. تتطلب عودة اللاجئين خطوات طارئة، مثل تقديم حُزَم المساعدات والهبات النقدية وتسليم أدوات الزراعة. لكن قبل بلوغ هذه المرحلة، لن يعود اللاجئون طوعاً إلا إذا رسّخت الحكومة المركزية ظروفاً أمنية إيجابية لا تقتصر على وقف القتال بل تشمل أيضاً إعادة تشكيل قوات الشرطة، وسنّ تشريع للدفاع عن حقوق الملكية ومعالجة انتهاكات الحقوق، وإعادة بناء الطرقات وإزالة الأنقاض، وإصلاح أنظمة المياه والصرف الصحي. من دون اتخاذ هذه التدابير، يعجز جزء كبير من اللاجئين عن العودة.



يُفترض أن تشمل هذه الجهود مشاركة قادة المجتمع وتوجيههم، بالتعاون مع منظمات إغاثة معروفة بدل الجماعات المتخصصة. يجب أن تُعقَد شراكات مع منظمات مثل برنامج الأمم المتحدة للتنمية، والبنك الدولي، واليونيسف، وبرنامج الغذاء العالمي.

لن تسترجع إثيوبيا تماسكها قبل مرور عقود، وقد بدأ الوقت ينفد. تكشف دراسات عدة أن اللاجئين يصبحون أقلّ ميلاً إلى العودة مع مرور الوقت، لا سيما الفئات الأصغر سناً التي تُعتبر الأكثر أهمية لتحسين مستقبل أي اقتصاد. لكن يبدو أن آبي لا يهتم بأيّ من هذه المسائل للأسف. لا تزال قوات إريتريا وتلك التابعة لجماعة "أمهرة" موجودة في المنطقة. ربما انسحبت قوات "أمهرة" من مدينة "شير"، لكنها لا تزال تسيطر على الغرب، وكامل المساحات في "تسيلمتي" و"ديما"، وبعض القطاعات الإدارية حول "ألاماتا" جنوباً. في غضون ذلك، لا تزال المواد الغذائية والخدمات الطبية شحيحة، ويفتقر السكان إلى الأمان في بعض المناطق. قد يكون هذا الوضع مقصوداً، إذ يستعمل آبي السلام الرسمي لتجنّب العقوبات لكنه يسمح لقوات إريتريا بتنفيذ أعماله القذرة من دون ترك بصمته في مسرح الجريمة.



إذا كان آبي جدّياً في مساعي إنهاء الحرب، فيجب أن يحاول بناء السلام الذي يؤيّده على الورق. وحتى لو كان لا يهتم إلا بالسلطة، يُفترض أن يفكر جدّياً بعواقب التمسك بها في هذه البيئة الهشة التي أنشأها بنفسه.

MISS 3