لا يمكن لأي فريق سياسي لبناني أن يتصرّف كأنه يعيش وحده في البلاد خصوصاً في المنعطفات التي تتطلّب بناء توافقات وطنيّة تفرضها طبيعة النظام الديمقراطي، من جهة؛ وتركيبة المجلس النيابي الجديد، من جهة ثانية. ومن نافل القول طبعاً إنّ إستحقاقاً دستورياً ووطنياً مثل الاستحقاق الرئاسي يقع في طليعة هذه المنعطفات.
ولا يمكن لأي طرف سياسي أن يوزّع «الفيتوات» يميناً ويساراً على هذا المرشح أو ذاك من دون تقديم البدائل الجديّة بدل الاستمرار في الاقتراع بالورقة البيضاء، التي ثمّة سوء إستغلال عميق لمفهومها وفكرتها الأساسيّة كموقف اعتراضي يُسجّل في لحظة معيّنة، رفضاً لخطوة ما تسعى أكثريّة طاغية أن تفرضها على أقليّة ضعيفة، على سبيل المثال، بحيث يترك هذا الموقف أثراً في السياق العام.
لكن أن تتحوّل الورقة البيضاء إلى «مرشح» بذاته ينافس باقي المرشحين الطبيعيين، سواء أعلنوا أم لم يعلنوا ترشيحهم، إنما يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول استساغة بعض الأطراف اللبنانيّة لفكرة إمتلاكهم «حق النقض»، الذي لا يعدو كونه تفسيرات مشوّهة وجائرة للدستور والمواثيق والمنطق السياسي.
وها هي فكرة الميثاقيّة التي تمّ اختراعها واستغلالها وتوظيفها على غير ماهيتها الحقيقيّة، وعلى مدى سنوات، تُستخدم للعبث بالواقع الوطني اللبناني ولفرض مسارات سياسيّة تقع على طرفيْ نقيض مع الدستور واتفاق الطائف، بما يتلاءم مع مصالح تلك القوى التي تتعارض حتماً مع المصلحة الوطنيّة.
هذا النهج العبثي والتدميري لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية خصوصاً أنه يقود البلاد نحو المزيد من الانهيارات على مختلف المستويات. ماذا يعني هذا التدهور الهائل وغير المسبوق في سعر صرف العملة الوطنيّة اللبنانيّة إزاء الدولار الأميركي؟ وماذا يعني هذا الارتفاع الجنوني في أسعار المحروقات والسلع الغذائيّة التي قلّما تعاود النزول عندما تستعيد الليرة القليل القليل مما فقدته. تغيير الأسعار يحصل في حالات الصعود وليس الهبوط!
إنّها التجارة في السياسة والمقامرة في مصير اللبنانيين الذين تآكلت مداخيلهم وهي تتراجع مع كل صعود لسعر الدولار. التجارة في السياسة تعني أن بعض القوى لا تكترث أن تغامر في مصير الوطن تحقيقاً لمصالحها الخاصة والفئويّة. والتجارة في السياسة تعني السعي لتحقيق «المكاسب» الخاصة بمعزل عن تأثيرات ذلك على الصعيد العام.
التجارة في السياسة تعني «استيراد» منهجيّات عمل أنظمة اقليميّة في طول الصبر والأناة، مثل حياكة السجاد، تعويلاً على إرهاق الأطراف اللبنانيّة الأخرى، ووصولاً لتحقيق المبتغى السياسي في إيصال مرشح معيّن لرئاسة الجمهوريّة رغم عدم امتلاكه أكثريّة موصوفة ولا حتى مستترة!
التجارة في السياسة تعني تعطيل المؤسسات الدستوريّة وفقاً للأهواء والمصالح من دون أن «يرف جفن» تلك القوى، التي تمارس التعطيل وتقطع الطريق أمام الحد الأدنى من التطبيق المعقول للديمقراطيّة المتعثرة والضعيفة، وتقف حجر عثرة أمام طموحات اللبنانيين بدولة قادرة على توفير الحد الأدنى من العيش الكريم والكرامة الإنسانيّة.
في المفهوم النظري والفلسفي للسياسة، التناقض بينها وبين التجارة هو تناقض كامل وتام. لا تستوي السياسة وفقاً للمعايير التجاريّة والمركنتيليّة التي لا تستهدف سوى جني الأرباح الماليّة، ولو على حساب الشعوب المقهورة التي تُستغل مواردها دون علمها وموافقتها.
فلنفصل السياسة عن التجارة، ولنعد لها القليل من الأخلاق المفقودة!