د. ميشال الشماعي

الهيكلة الاجتماعيّة

7 شباط 2020

02 : 00

وقفة تضامنية مع "ثوار طرابلس" في ملعب فؤاد شهاب (رمزي الحاج)

من يراقب نمطيّة العيش في لبنان اليوم، ويقارنها مع سابقاتها، يفاجأ كثيراً، لأنّ اللّبناني الذي ربّاه، أو على الأقلّ، ربّى الذين ربّوه، لا يشبهه أبداً. وهذا ما يدفع المراقب إلى إجراء نظرة نقديّة حول هذا التحوّل الاجتماعي الذي شهده لبنان والذي أدّى إلى دماره. فهل سيستطيع لبنان إعادة الهيكلة الاجتماعيّة؟ أم أنّ هيكلة الاقتصاد والديون ستمنعانه من نهضته الاجتماعيّة؟

لقد وصلنا إلى مرحلة بتنا فيها أمام حالة عجز عام. وقد طال هذا العجز كلّ شيء. وصار البحث في الخروج من هذه الحالة الشغل الشاغل، برغم وجود المصاعب الاجتماعيّة التي قد تحول دون إجراء عمليّات النقد الذاتي. يكفي أن نعود إلى تاريخ الآباء والأجداد لنستلهم نمطيّة العيش التي من المفترض أن نحييها. وفي ذلك مصدر لإحياء كينونة لبنان لأنّه سيفقد علّة وجوده.

لا يعتقدنّ أحد أننا قد وصلنا إلى حائط مسدود وبتنا أمام خيارين لا ثالث لهما: الإفلاس أم الموت. والنهوض من حالة الموت السريري هذه لا تكمن فقط بالمعالجات الاقتصاديّة. بل ما يجب معالجته هو تلك العقليّة التي تطوّرت خلال هذه الخمسين سنة تطوّراً سلبيّاً، مع ظنّها بأنّها تحسن الصنيع وتواكب التطوّر الحضاري في العالم.

من هنا، تخلّى الناس عن عامل الأرض الذي هو عامل الوجود الأساسي، وهجّروا أنفسهم بأنفسهم، حتّى بعد عودتهم من التهجير القسري من الأرياف والدساكر بهدف البحث عن فرص عمل خارج القلاع والحصون التي بنوها طوال ألف وخمسمائة سنة من النضال والمقاومة؛ وذلك عوض اجتراح فرص عمل في قلاعهم هذه. وذلك ظنّاً منهم أنّهم يتشبّهون بالذين سبقوهم وفتحوا العالم بإنجازاتهم العلميّة والعمليّة. وهذا ما أوصلنا إلى تكتّلات سكّانيّة في المدن الرئيسيّة مقابل تواجد خجول في قرى الأرياف والجبال.

ونتيجة لذلك كلّه، صار البحث عن الربح الأسرع، وفقد اللبناني نعمة الصّبر التي استمدّها من انتظار مواسمه في الأرض طيلة فصل أو أكثر ليحصدها بفرح ويعيش بفرح. هذه النمطيّة الجديدة في العيش قد أفقدتنا الفرح، ونشوة الاكتفاء فصرنا نبحث عن الربح الوفير والسريع على قاعدة " الشطارة" اللبنانيّة ولو أنّها على حساب الضمير الحيّ الذي زرعه الآباء فينا.

لن تنفع أي هيكلة اقتصاديّة إن لم نعد هيكلة أنفسنا اجتماعيّاً، لأنّنا قد أصبنا أنفسنا بأنفسنا بتشوّه اجتماعيّ سيطال وجوديّتنا إن استمرّ. ولا يقصد بذلك إنكار التطوّر والعودة بنمطيّة الحياة إلى بداءتها، بل نقل هذا التطوّر التكنولوجي لتطوير حياة الأرياف والقرى بهدف تحويلها إلى مصانع إنتاجيّة حيّة، تحوّل بدورها الاقتصاد الريعيّ إلى اقتصاد إنتاجي. ما يجب أن تشهده السّنون القادمة هجرة عكسيّة من المدن إلى القرى، مع الحرص على نقل ما اكتسبته الأجيال من الثورة الرقميّة لتطوير هذه الدساكر اجتماعيّاً وحضاريّاً وليس هجرتها بغرض الكسب السريع.

الإصلاح الاقتصادي سيفشل من جديد إن لم يتزامن مع إصلاح اجتماعي؛ وهذه مسؤوليّة أصحاب الفكر وحدهم. فعلى الأحزاب السياسيّة الموجودة اليوم أن تعيد هيكلة نفسها بنفسها عبر بثّ الفكر النهضويّ الاجتماعي مواكبة للإصلاح الاقتصادي ومواكبة لحركة الثورة، وذلك من دون أن تشكّل هذه الأزمة رادعاً إضافيّاً للتحرّك اجتماعيّاً. مطلوب العودة إلى جذورنا الحضاريّة التي فقدناها، لأسباب عديدة، لسنا مسؤولين عنها، وأحياناً فقدناها عن عمد طمعاً بمواكبة عصر السرعة. ماذا وإلّا...

سننحدر أكثر نحو أزمة حضاريّة تفقدنا حريّتنا الكيانيّة الشخصيّة. وعندها لن ينفع البكاء ولا صرير الأسنان.

MISS 3