عماد موسى

جو قديح في "إم الكل" العجوز الملكة

17 شباط 2020

09 : 51

"أم الكل" على مسرح الجمّيزة
من خلف ستارة لا تحجب الرؤية، وقفت السيدة العجوز خلف نافذة منزلها القديم المطلّ على الصخب الجميل وضربت على طنجرة "تيفال"، بإيقاع تمرّست به أيام الثورة معلنة منذ البداية انحيازها إلى جانب الشباب ضد تركيبة سياسية وضد الجارة التي تسكن تحتها.



خطا جو قديح في "إم الكل" خطوة فريدة في مسيرته المسرحية، مؤلفاً ومخرجاً وممثلاً وجامعاً "الثلاث"، لا من جهة مقاربته للثورة بطريقته الساخرة والهادفة والواضحة، بل بأدائه دور سيدة مسنّة، بحرفية عالية، ممسكاً بكل مفاتيح الشخصية النفسية والجسمانية، وجاء النص لصيقاً بامرأة أتعبها العمر وأحيت حماستها الثورة. تشق الستارة وتدخل بخطى متثاقلة. ملتفة بشالها وتلف شعرها بـ"بيغودي" ويظهر الفاريز على قدميها. تدخل وتثرثر بصوت مخفوض. تتعب من الوقوف والكلام. تلقي بثقلها على كنبة كئيبة معتمدة على رعاية "سيدة البزاز" شفيعتها في الأيام الصعبة الصعبة. لا ديكورات على المسرح سوى تلك الكنبة وقربها "لمبادير" وطاولة صغيرة عليها سنارتان ومشروع كنزة في بدايته.

الضوء خفيف على المسرح. والسيدة العجوز تروي على طريقتها شيئاً من يوميات الثورة التي وحّدت ما بين المناطق، وقرّبت المسافات، تقارب المشهد الميداني، بما فيه إقفال الطرقات وحرق الدواليب ورمي الحجارة والتكسير بكثير من الظرف والتأييد لشباب الثورة، رجالاً ونساء وطلّاباً. منتقدة منتقدي الظواهر العنفية والملوّثة للبيئة، ومنهم جارتها، "شو بدّك يحرقولك Bûches بالشومينيه"، وقمة الأداء الكوميدي في الكلام مع "الفلوطي" إبن الأشرفية المتخصص في خدمة دفن الموتى، وفي تساؤل العجوز "إذا مات هو (أي الفلوطي) مين بيهتم فيه". مونولوغ رشيق، منضبط النبرة أعاد إلى السيدة العجوز المتعبة شبابها المعبّر عنه بقلم أحمر الشفاه. في لحظة تخلّت عن الـ"بيغودي" فلشت شعرها. تشابكت الأفكار في رأسها.أدخلت المشاهد في يومياتها. في حواراتها مع أفراد عيلتها في كندا، من دون أن تبتعد عن يوميات الثورة إذ تحتفظ لحفيدها ببقايا قنبلة مسيلة للدموع، و"زلعوم" وبحجر من جدران بناء سوليدير... نتعرف إلى الخادمة ميمي وإلى زوجها إميل وكأنهما حاضران معها، ترمي إلى الخضرجي سليمان بسلتها وتسأله من فوق "قدي سكّرت أونصة المارتديلا". تستقبل المعالج الفيزيائي الشاب الدكتور جان بلهفة زائدة وإغواء لا يُستجاب له.

تتذكر العجوز زمن الجنرال عون في ثمانينات القرن الماضي، وصعود الشعب إلى قصر الشعب، وتبرّع النسوة بـ "مصاغهنّ". تصف كيف عانقته وأمطرته بالقبل... وكان ما كان من ذاكرة تستولد المشاهد. تقف. تمشي. تروي. تجلس على الكنبة رافعة الدعاء إلى "سيدة البزاز".

"إم الكل" سواء وُصف بأنه مسرح سياسي أو إنساني أو محفّز على استمرار ثورة 17 تشرين أو مسرح الشخص الواحد، فهو في المحصلة يُقرأ على غير مستوى، فالمتعطش إلى ما يسلّي يتسلّى ويقهقه، والثائر الباحث عن مرآة لثورته يتمرّى، والمشتاق إلى رؤية عمل مبهر في بساطته وصياغته لن يخيب أمله. شخصياً مرّ ببالي وأنا أستمتع بأداء قديح، في لحظة ما، داستن هوفمان في فيلم Tootsie، وجليلة بكار الرائعة في مسرحية فاميليا للفاضل الجعايبي. الأول لبس امرأة والثانية خلعت أنوثتها وارتدت شخصية عجوز تزاحم شقيقتيها على قلب بوسطجي شاب. والجامع المشترك بين الممثلين الثلاثة، أي هوفمان وبكار وقديح، هو درجة الإتقان في لعب دور امرأة.

في أعمال سابقة، مثل daddy أو "أبو الغضب" أو "حياة الجغل صعبة "، تفوّق نص قديح على التمثيل، في الأمس بدا الممثل مختلفاً، متألقاً وإن اتكأ على موضوع طازج يحاكي الناس في يومياتهم وتحدياتهم.

بقرع على طنجرة مهّدت تلك السيدة لمسرحية "أم الكل"، وفي المشهد الأخير عرفت عن نفسها بشيء من الكِبَر والفخر بأنها ملكة الثورة، واضعة يدها اليمنى على عينها اليمنى في رمزية رائعة وتحية لمن فقد عينه في ظل عهد "بي الكل".


MISS 3