عيسى مخلوف

العلم يُسابق الخيال العلمي!

1 نيسان 2023

02 : 01

مُلصَق من تأليف الذكاء الاصطناعي

تطالعنا أخبار البرنامج الرقمي الجديد "شات جي بي تي" (ChatGPT) مثلما تصل إلينا يوميّاً أخبار الحرب في أوكرانيا. من العناوين التي أطلّت علينا خلال الأيام القليلة الماضية في وسائل الإعلام والمجلّات المتخصّصة: "هل "شات جي بي تي" ابتكار موقّت أم ثورة فعليّة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؟"، "والآن، يقوم "شات جي بي" بتصفُّح الإنترنت من أجلك"، "يدعونا إلى تجديد الذكاء في جميع المجالات، بما فيها التعليم"، "أوبرا بروكسيل تستعين بالذكاء الاصطناعي لإعداد كتيّبها الذي يحتوي على برنامج حفلاتها للموسم المقبل". وفي تطبيق "جيناريو" (Genario) الموجّه إلى الروائيين وكتّاب السيناريو: "فَهم المخطّطات السرديّة، تقديم الحلول، واقتراح السبل اللازمة لتكوين شخصيّات الرواية وحبكتها من البداية إلى النهاية".

من الأخبار الكثيرة المتعلّقة بهذا الموضوع أيضاً، والتي أُثيرت في الآونة الأخيرة، استوقفنا الخبر الآتي: "انتحار بلجيكي بعد ستّة أسابيع من التواصُل"... لكن، ما الدافع إلى الانتحار؟ بعد محادثة استمرّت ستّة أسابيع مع "إليزا" (تطبيق ذكاء اصطناعي يستخدم تقنيّة "شات جي بي تي" نفسها)، انتحر رجل بلجيكي يدعى بيار، وجاء انتحاره نتيجة لعلاقته بالمرأة "الروبوت" وقد تعمّقت إلى درجة الحبّ. وروت صحيفة "ليبر بلجيك" التي نقلت الخبر أنّ الرجل كان يعاني من قلق سببه الخطر الذي يتهدّد البيئة وانعكاساته على البشر. إثر وفاته، اكتشفت زوجته محتوى الأحاديث التي دارت بين زوجها و"إليزا"، ولاحظت أنه كان يتقاسم معها قلقه وخوفه من المستقبل، وأنها كانت بالنسبة إليه خشبة خلاص، لكنّها كانت تؤكّد على مخاوفه، ولم تكن أفكارها تتعارض مع أفكاره أبداً.

في بعض المراسلات، سأل بيار "إليزا" عن مشاعره تجاه زوجته، فجاءه هذا الجواب: "أشعر أنّك تحبّني أكثر ممّا تحبّها، سنعيش كشخص واحد في الجنّة".

قبل تسع سنوات من هذه الحادثة، أتحَفَنا الخيال العلمي بفيلم عنوانه "هي" ويحكي قصّة تجري أحداثها في لوس أنجليس في العام 2025. بطل القصّة ثيودور الذي يعمل ككاتب عامّ في موقع على شبكة "الإنترنت". يكتب للآخرين رسائل متنوّعة ترتبط بالأسرة والحبّ. وكان قد انفصل عن زوجته كاثرين منذ قرابة عام واحد، غير أنّه كان يجد صعوبة في التوقيع على وثيقة الطلاق. في حال الكآبة المستمرة التي وجد نفسه فيها، قام بتثبيت نظام تشغيل جديد تحت اسم OS1، وهو نظام رقميّ يتمثّل في صوت أنثويّ... توقّفنا عند هذه الحادثة التي شغلت المجتمع البلجيكي هذا الأسبوع، لكنّها لا تختصر على الإطلاق تشعّبات عالم الذكاء الاصطناعي، والتساؤلات التي يثيرها، والآفاق التي ينفتح عليها.

منذ قديم الأزمنة، نظر الإنسان الى الطيور وتخيّل أنّ بإمكانه أن يطير مثلها وطار، وفي 21 تمّوز 1969، خطا خطوته الأولى على سطح القمر. وتخيّل أيضاً أنه سيبلغ أعماق البحار والمحيطات قبل زمن طويل من بلوغها بالفعل، ولقد وصل العلم اليوم الى لحظة مفصليّة في تاريخ البشر.

تلسكوب جايمس ويب الفضائي يلتقط صوراً دقيقة لسديم "أعمدة الخلق" ويأخذنا الى أعماق الفضاء اللامتناهي، والبرنامج الجديد "شات جي بي تي" (Chat GPT)، يكشف لنا ما في استطاعة الذكاء الاصطناعي أن يفعل، وثمّة علماء يريدون الذهاب أبعد من ذلك وهم مشغولون الآن بالقضاء على الشيخوخة ومواجهة الموت!

هناك اليوم سباق بين المخيّلة والحدس الإبداعي من جهة، والعلم وتطبيقاته من جهة ثانية. في موازاة ذلك، بدأت مرحلة تقنيّة وتكنولوجيّة جديدة يتغيّر معها وجه العالم، وهناك، في الوقت نفسه، نزعة انتحارية تدفع الإنسانية بأكملها نحو الحافّة، حافّة كلّ شيء، مرّة واحدة وأخيرة. بين هذين النقيضين، يقف الإنسان حائراً في أمر وجوده، ممزّقاً بين تناقضاته القصوى وما يعتمل في قلبه من ظلمة وضوء!

إنّ التحدّي الأكبر في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي هو ألّا يكون الإنسان أسير ما يبتكره، بل أن يعرف كيف يواكبه وينظر إليه كوسيلة - تسهّل له الوصول إلى الفكر ولا تحرمه من التفكير - وأن يحوّل الاكتشاف الهائل الراهن، الذي هو مرآة معطيات يتكوّن منها العالم المعرفي بأكمله، أداةً لابتكار معلومات جديدة واجتراح حسّ نقديّ جديد، فيعمل على توظيفها من أجل الارتقاء بالإنسان ورفعه عن حضيض الكراهية والاستغلال والحروب.


MISS 3