جوزيفين حبشي

للموت 3... لحياةٍ جديدة تلدها مخيلة ندين جابر

7 نيسان 2023

02 : 05

للموت
مع نهاية الجزء الثاني من سلسلة للموت (من إنتاج شركة إيغل فيلمز للمنتج جمال سنان)، طالب الجمهور وبإلحاح بجزء ثالث. لقد رفض أن يتمّ وضع نقطة النهاية على سلسلة شكّلت نقلة نوعية في تاريخ الدراما المشتركة، لجهة احتوائها على خلطة متكاملة (نصاً وإخراجاً وتمثيلاً وإنتاجاً) ومتجانسة بتناغم، رغم الأنواع الكثيرة التي من النادر جمعها كلها عادةً في عمل واحد: دراما ومآسٍ إجتماعية وطرافة لايت، حب ورومانسية، تشويق وغموض، جرائم وحركة، واقعية فجة وأناقة وسحر وخيال وفانتازيا والأهم... ثنائية نسائية إستثنائية، أنجبتها مخيّلة الكاتبة ندين جابر، وقدرات المخرج فيليب أسمر، وبراعة الممثلتين ماغي بو غصن ودانييلا رحمة، اللتين عرفتا كيف تجعلان منهما "ايقونتين" مثل ايقونات الثنائيات النسائية المطبوعة في ذاكرة الفن التمثيلي العربي والعالمي. فبعد "ريا وسكينة" و"تلما ولويز"، حان مع "للموت" زمن "سحر وريم".



هاتان الشخصيتان آسرتان لامرأتين فولاذيتين تملكان ما تتمنى أي امرأة امتلاكه (جمال وذكاء ودهاء وقوة وخبرة وليدة تجارب مؤلمة جداً، قوّتهما ولم تضعفهما). إمرأتان، تعلّق الجمهور بهما وبقصصهما، ولا يزال ينتظر مغامراتهما بشوق وترقّب، رغم أنه مطمئن إلى مصيرهما ليقينه أنهما شبيهتان بنجوم عالم مارفل للابطال الخارقين الذين ينتصرون دائماً. الاولى سحر هي "واندر وومن" (المرأة الخارقة) والثانية ريم هي "كات وومن "(المرأة القطة)، وهما قادرتان دائماً على قلب الأمور لصالحهما، مهما كان الوضع متأزماً. هذا الوضع المتأزم، ازداد تأزماً مع نهاية الجزء الثاني، ووقوع سيارة سحر وريم في البحر. لقد اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بمطالبات بجزء ثالث يعيدهما الى حياة ثانية ومغامرات جديدة، خصوصاً أن موتهما لم يكن محتّماً درامياً.




فيليب أسمر وماغي بو غصن






الجمهور قال لا لنقطة النهاية، والكاتبة ندين جابر كادت أن تقع "بالنقطة"، لأن استعادة النجاح للمرة الثالثة، ومن خلال قصة خُتمت كما كان مقرراً بانتحار البطلتين، وشخصيات قدّمت كل ما لديها، أمر ليس بالسهل أبداً. ندين جابر لم تعط موافقتها فوراً على جزء ثالث، فالتحدي كان كبيراً، والفشل في خلق جديد سيقع على عاتقها هي وحدها، لأن النص والورق هما الأساس. ندين أخذت كامل وقتها لتفكّر بحبكة ترضي الجمهور وشركة الإنتاج، وترضيها هي أولاً، وتقنع منطقها ومنطق الاحداث (التي تتحمّل كثيراً من الفانتازيا كما سبق وذكرنا). وعندما قالت نعم لجزء ثالث، إنطلق التشويق وانطلقت التساؤلات: هل ستكون الثالثة ثابتة على النجاح المعهود؟ هل ستتمكن ندين من مفاجأتنا من خلال خلق قصة آسرة ومحبوكة جيداً؟ هل ستنجح بملئها بأحداث مشوقة ومغامرات غير متوقعة وشخصيات جديدة كاريزماتيكية ومُحيّرة ومستفزّة بقصصها ومساراتها وخلفياتها على مدى 30 حلقة؟ هل ستتمكّن من جعل عشاق السلسة يغضّون الطرف عن غياب ثلاثة عناصر اساسية من أمثال عمر (الرائع باسم مغنية) وأمير (بديع أبو شقرا) اللذين إنتهى دور كل منهما بالموت مع نهاية "للموت 2"، وهادي (محمد الاحمد) الذي كانت عودته ستعني تكراراً لقصته مع ريم؟ هل ستنجح في جعل الجمهور الذي تماهى كثيراً مع قصص حب سحر وأمير، وريم وهادي وعمر، يقتنع بوقوع سحر وريم بحب رجلين آخرين؟ على كافة هذه التساؤلات هناك إجابة واحدة مع وصول الجزء الثالث الى نصفه: نعم، نجحت ندين جابر، فهي والحق يقال بطلة المغامرة الثالثة، بكل ما خلقته من أحداث منفصلة تماماً ومتصلة أحياناً بما سبقها. لقد تمكّنت من ضخ أجواء طريفة وحماسية أكثر بكثير من السابق،(نقطة تحسب بقوة لصالح هذا الجزء، خصوصاً أن الجمهور المخنوق من الوضع المتأزّم، ملّ الأجواء القاتمة البحتة التي تغرق بها معظم الأعمال هذه السنة). لقد نجحت في ابتكار عوالم إكزوتيكية وحبكات تدور حيناً في تونس التي تنبض بشخصيات جديدة ومناخات تمزج الأكشن بالخطر والتشويق، وأحياناً أخرى في لبنان بكل ما فيه من واقعية الحي الشعبي الذي انتقل بمعظم شخصياته المحببة سابقاً، إلى "كادر" جديد هو الميتم. وقبل الإنتقال إلى نقطة أخرى، لا بد من الإشارة إلى أن كثرة وجود شخصيات لبنانية وسورية في تونس، لا تُعَد خطأ جوهرياً، لأن العمل ليس تقريراً وثائقياً يستند الى إحصاءات مختار البلدة وسجلات الوافدين العرب، بل مسلسلاً متخيلاً. لم تخطئ الكاتبة بعدم التركيز على شخصيات عديدة تونسية (اكتفت بجاكو صاحبة البار) فلو فعلت، لضاع المشاهدون مع لهجة لا يعرفون منها سوى "برشا برشا" و"هكّا"، ولاستوجب الامر إضافة ترجمة.



نادين جابر



ما ابتكرته مخيلة ندين جابر من حبكات جديدة ومسارات وشخصيات كثيرة تتقاطع مع القديمة أحياناً، ساهم بشكل أساسي في نجاح الجزء الثالث، لأن المعضلة كانت النص فقط لا غير. لماذا؟ ببساطة لأن قدرات سائر مكونات العمل، لم تعد منذ الجزءين السابقين موضع شك أو تساؤل. فعلى عكس سارية التي "تكلك" كثيراً، لم يساورنا القلق بتاتاً على كل من "مايسترو الاخراج" فيليب أسمر وبراعته في خلق مشهدية كاملة متكاملة، آسرة ساحرة مسلية مرفّهة أنيقة فانتيزية، من دون أي لحظة موت للإيقاع، رغم موت عدد من الشخصيات، لزوم أجواء العصابات والمافيا. لم نخف مطلقاً على" سحر أبو غصن و"ريم رحمة" "اللتين من المستحيل أن تفلت منهما شخصيتان أصبحت توأم روحهما. لم نعتل همّ سائر نجوم السلسلة مثل المدهشة ببساطتها وطيبتها وحنانها رندة كعدي، والتاريخ أحمد الزين، و"الثعلب المغناطيس" كميل سلامة و"وحش الاداء والطرافة" كارول عبود، و"دشش" اللعب والتلاعب فادي أبي سمرا، و"العفريتة الصغيرة" تالين أبو رجيلي، والرقيقة ريان الحركة، والقديرة ختام لحام.

بدورهم نجوم الجزء الثالث لم يخيبوا الآمال، فورد الخال بشخصيتها المستفزة والمركّبة والمريضة من دون مبالغات، قيمة مضافة، وهذه الثلاثية النسائية النارية التي تشكلت بين سحر وريم من جهة وكرمى من جهة أخرى، أكثر من ممتعة. أما النجمان السوريان يامن حجلي ومهيار خضور فليس دورهما أن يُنسيا الجمهور كل من عمر وهادي وأمير، أو أن يحلا مكانهم، فأصلاً من الصعب نسيانهم بدليل أنهم حاضرون على لسان سحر وريم. يامن حجلي ومهيار خضور حاضران بمسار جديد، وقصة مختلفة، وحضورهما مقبول حتى الآن، والانجذاب بينهما وبين سحر وريم مقنع، بانتظار مزيد من التطور في الحلقات المقبلة.




ملصق المسلسل




مع انتصاف عدد حلقات "للموت 3"، أرى أن المسلسل تمكّن من كسب الرهان الصعب، وإثبات أن الثالثة ثابتة على نجاح هو خلاصة عمل كامل متكامل، مع فريق متجانس ومتناغم، وبطولات جماعية وحبكات كثيرة تلاحق كافة الشخصيات (في أدوار أولى وثانية) بخلفياتها وماضيها وحاضرها، وتمكّنت أن تشوّقنا وتسلينا وتضحكنا وتبكينا، وتخطف أنفاسنا بمفاجآتها المتلاحقة. هذا إضافة إلى الإضاءة على عدد من الموضوعات المهمة في هذا الجزء مثل الفن الهابط ( كليب دشش) وخوض الإنتخابات النيابية مع وجوه شبابية إصلاحية كمحمود (وسام صبّاغ) ستحاول "ما تخلّي" من يتحججون بمقولة" ما خلونا" من الوصول إلى المجلس.

"للموت3"، تمكّن من كسب الرهان الصعب، رغم بعض الثغرات التي يصعب التوقف عندها نظراً للصورة الكاملة والشاملة التي "نُصدّقها" (حتى ولو قال لنا المسلسل إن اللبن اسود) لأنه يحترم المنطق وعقول المشاهدين، ويقترب من الواقعية والواقع المزعج الذي بات يضغط على أنفاسنا، ويبتعد بنا في الوقت عينه نحو الفانتازيا والاكشن والطرافة المحببة التي تضخ الاوكسيجين من خلال شخصيات اعتدنا اقوالها وبتنا نترقبها لأنها باتت سمة من سمات الدور.


"للموت 3" من أنجح أعمال الدراما المشتركة لهذه السنة، على أمل أن يكون ختام هذا الجزء مسكاً مثل بدايته، وختام سلسلة من المستحسن أن تتوقف في قمة النجاح.






MISS 3