يوسف منير

لماذا لم ينضمّ الفلسطينيون إلى الإحتجاجات الإسرائيلية؟

13 نيسان 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

في معظم المجتمعات، تكون الأقليات الهشّة من أبرز مؤيّدي المحاكم القوية والمستقلة، لأن السلك القضائي يتولّى في معظم الحالات حماية تلك الجماعات من تجاوزات سلطة الدولة. في إسرائيل، تلك الدولة التي تعتبر نفسها يهودية، ما من أقلية أضعف من المواطنين الفلسطينيين غير اليهود. مع ذلك، غاب مواطنو إسرائيل الفلسطينيون (يشكّلون حوالى 20% من المواطنين المحليين) عن الاحتجاجات الحاشدة التي هزّت البلد في الأسابيع الأخيرة. كانت تلك التظاهرات تهدف ظاهرياً إلى حماية محاكم إسرائيل وإنقاذ ديمقراطيتها.



يسعى الائتلاف اليميني المتطرّف الذي يقوده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إضعاف السلك القضائي الإسرائيلي عبر ترسيخ سيطرة الحكومة على التعيينات، فضلاً عن منحها الصلاحيات التي تسمح لها بإلغاء قرارات المحكمة العليا عن طريق أغلبية برلمانية بسيطة. يعتبر جزء كبير من الإسرائيليين اليمينيين تلك المحكمة عائقاً أمام طموحاتهم بإعادة تنظيم المجتمع الإسرائيلي وتوجيهه نحو مسار أكثر تديّناً وقومية. لكن يعتبر مواطنو إسرائيل الفلسطينيون المحكمة أساس النظام الذي يدعم تفوّق اليهود، ما يعني أنها تمنع مساواتهم مع الآخرين من الناحية السياسية.

خلال الأسبوع الذي اضطرّ فيه نتنياهو لتعليق التشريع الحكومي المرتبط بالإصلاح القضائي نتيجة التحرّكات الإسرائيلية الحاشدة، أحيا الفلسطينيون ذكرى يوم الأرض. إنها ذكرى سنوية لذبح مواطني إسرائيل الفلسطينيين، في 30 آذار 1976، حين كانوا يحتجّون على استيلاء الدولة على أراضيهم عبر شرطة إسرائيل وجيشها. نتيجةً لذلك، قُتِل ستة فلسطينيين وأصيب حوالى مئة آخرين. يجمع يوم الأرض الفلسطينيين على جانبَي الخط الأخضر في خضم نضالهم ضد الجهود الإسرائيلية الرامية إلى إجبارهم على ترك أراضيهم، وهو يعيد إحياء ذكرى من ضحّوا بحياتهم دفاعاً عن تلك الأراضي.

في ذكرى يوم الأرض، في العام 2018، نظّم الفلسطينيون في غزة "مسيرة العودة الكبرى"، وحاولوا بذلك تسليط الضوء على حقوق اللاجئين الفلسطينيين لدعم عودتهم إلى قرى وبلدات أجدادهم. لكن قبل بدء تلك المسيرة، نشر وزير الدفاع الإسرائيلي مئة قناص على السياج المحيط بالقطاع المحاصر، وتلقّى هؤلاء أوامر بإطلاق النار. بحلول نهاية تلك التحرّكات الشعبية، قتلت النيران الإسرائيلية الحيّة أكثر من 200 فلسطيني وأصابت الآلاف، وخسر جزء كبير من المصابين أطرافهم. حتى أن أحد القناصة الإسرائيليين تفاخر بتفجير 42 ركبة في ذلك اليوم أثناء إطلاق النار على المحتجين الفلسطينيين.

كانت المحكمة العليا، التي يحتجّ يهود إسرائيل لإنقاذها في الفترة الأخيرة، الشريكة الأكثر ولاءً للدولة، وهي من سمحت بارتكاب هذا النوع من القمع العنيف والانتهاكات بحق الفلسطينيين.

كذلك، وافقت هذه المحكمة بالذات على أن يستعمل الجيش النيران الحيّة ضد المحتجين في غزة، في العام 2018. وبحسب تصريحات "جمعية الحقوق المدنية" في إسرائيل لصحيفة "هآرتس"، سمحت هذه المحكمة للدولة الإسرائيلية أيضاً باستعمال أساليب التعذيب ولم ترفض طلب إسرائيل باعتقال الفلسطينيين من دون محاكمتهم أو توجيه التُهَم ضدهم. حتى أن جزءاً من قراراتها في العقد الماضي سمح للدولة بإطلاق حملة تطهير عرقي في منطقة "مسافر يطا" في الضفة الغربية المحتلة، ومصادرة أملاك الفلسطينيين في القدس الشرقية، وسحب الجنسية من الفئات التي تُعتبر خائنة، وحرمان الفلسطينيين المتزوّجين من إسرائيليين من الجنسية، وفصل الجماعات اليهودية والفلسطينية عن بعضها داخل إسرائيل، والسماح للدولة باستعمال جثث المعتدين الفلسطينيين المزعومين كأوراق ضغط لفرض المساومات السياسية.

بالنسبة إلى الفلسطينيين، قد يكون الاحتجاج على قرارات الحكومة الإسرائيلية مرادفاً للحُكم عليهم بالإعدام، سواء أكان المحتجون من مواطني إسرائيل أم لم يكونوا كذلك. هم لا يهتمون فعلياً بتعريض حياتهم للخطر من أجل إنقاذ المحكمة التي سمحت للدولة بقتلهم.

في الأسبوع الماضي، برزت مجموعة من أفضل الأدلّة على هذا الاختلاف الفاضح في التعامل. رغـــــم امتلاء الشوارع بحشود من يهود إسرائيل وإقدامهم على إقفال الطرقات السريعة، بقـي قمع الشرطة ضئيلاً مقارنةً بحجم الاحتجاجات، وكانت الوسائل المستعملة غير قاتلة عند اللجوء إلى القمع. لكن عندما أمضى المصلون الفلسطينيون ليلتهم في المسجد الأقصى في القدس للصلاة خلال شهر رمضان، وهي عادة تقليدية خلال هذا الشهر الإسلامي الكريم، أقدمت الشرطة على ضربهم بطريقة وحشية. أُصيب حوالى 50 فلسطينياً خلال حملة القمع العنيفة، فيما اعتُقِل نحو 350. ويوم الجمعة، أطلقت إسرائيل ضربات جوية على غزة ومنطقة أخرى بالقرب من مخيّم للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان رداً على صواريخ نَسَبتها إلى حركة "حماس". أعلنت "حماس" من جهتها أنها أطلقت تلك الصواريخ رداً على تحرّكات قوات الأمن الإسرائيلية في المسجد الأقصى. في غضون ذلك، انتهك متعصّبون يهود متديّنون حرمة ذلك الموقع المقدس من دون مواجهة أي عواقب بارزة، علماً أن هذه الجماعة تحظى بدعم الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة.

لم تشمل الاحتجاجات في إسرائيل أي فلسطينيين بشكل عام، لكن تتمحور هذه التحرّكات فعلياً حول الفلسطينيين. لا يزال الصراع على السلطة بين فروع الحكومة الإسرائيلية مستمراً لأن الدولة تفتقر إلى دستور حقيقي. لم تقم إسرائيل بتبنّي أي ميثاق مماثل عند تأسيسها في العام 1948 أو في أي مرحلة لاحقة، لأن الحدّ من سلطة الدولة (عبر تكريس مبدأ المساواة في الحقوق مثلاً) كان ليُضعِف قدرة إسرائيل على تنفيذ أهم مشروع بالنسبة إليها: متابعة استعمار فلسطين.

كان أكبر محرّك فردي للجهود اليمينية المطوّلة التي تهدف إلى كبح صلاحيات المحاكم الإسرائيلية يتعلّق بتفسير المحكمة العليا لوثيقة يمكن اعتبارها أقرب ما يكون إلى قانون الحقوق الفردية والحريات: إنه القانون الأساسي للكرامة الإنسانية الصادر في العام 1992. عمد معدّو ذلك القانون إلى استبعاد الحقّ في المساواة وحقوق مهمة أخرى، مثل حرية المعتقد والتعبير. لكن اعتبرت المحكمة العليا بند الكرامة الإنسانية ضمانة للحق في المساواة.

قد يبدو هذا التوجّه مفيداً للفلسطينيين، لكن تبنّت المحكمة تفسيراً خاصاً بها حول صلاحية القوانين الإسرائيلية، وفرضت عليها أيضاً أن تراعي طريقة تأثير التدابير القانونية الجديدة أو المقترحة على قيم الدولة "اليهودية والديمقراطية". بعبارة أخرى، تأثرت قدرة المحكمة على اعتبار المساواة جزءاً من الحقوق بسؤال أساسي: هل تفرض هذه المساواة أي تحديات على هوية إسرائيل اليهودية؟

منطقياً وعملياً، تؤدي هذه الممارسة القضائية إلى منح أصغر قدر ممكن من المساواة إلى المواطنين غير اليهود. لكن حتى مكانة المواطنين من الدرجة الثانية لا ترضي القوميين المتدينين في إسرائيل، إذ يعتبر هذا المعسكر المحكمة حتى الآن عائقاً أمام أجندتهم الرامية إلى ضمّ المزيد من الأراضي الفلسطينية وجعل المجتمع الإسرائيلي أكثر تديّناً.

توضح قرارات المحكمة العليا بشأن قانونَين جديدَين أنها لا تضمن الديمقراطية بأي شكل. دعمت هذه المحكمة القانون الأساسي الصادر في العام 2018، وهو يعتبر إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي ويمنح الحق بتقرير المصير في إسرائيل إلى الشعب اليهودي حصراً. لكن عندما اقترح مواطنو إسرائيل الفلسطينيون قانوناً يدعو إلى قيام "دولة لجميع المواطنين"، اعتبره الكنيست متطرفاً بدرجة تمنع طرحه رسمياً ووافقت المحكمة على هذا التوجّه.

لا يدرك عدد كبير من المراقبين الأسباب الأصلية للاضطرابات الإسرائيلية لأنهم لم يواجهوا واقع الدولة الواحدة التي تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. عندما تمسّك المحللون بنموذج الدولتَين الذي أصبح بالياً، أخرجوا الفلسطينيين من المشهد العام واعتبروا إسرائيل في أسوأ الأحوال ديمقراطية شائبة. لم تتّضح جريمة الفصل العنصري ودور المحاكم الإسرائيلية في ارتكابها إلا بعدما وسّع هؤلاء نطاق رؤيتهم لضمّ الفلسطينيين، على غرار ما فعله عدد كبير من جماعات حقوق الإنسان، بما في ذلك منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية، ومنظمة العفو الدولية، و"هيومن رايتس".

تعكس التظاهرات التي هزّت إسرائيل في الأسابيع الأخيرة صراعاً بين داعمي نسختَين مختلفتَين من الفصل العنصري: تبدو النسخة الأولى فاضحة ويمينية بطبيعتها، بينما تهدف النسخة الثانية إلى متابعة الاختباء وراء غطاء الليبرالية.

بغض النظر عن نتيجة هذه الاحتجاجات، لا يمكن أن تتحوّل الدولة التي تعتبر المساواة تهديداً وجودياً إلى ديمقراطية يوماً. لا يشارك الفلسطينيون في التحركات الأخيرة إذاً لأنهم يعرفون هذه الحقيقة منذ وقتٍ طويل.


MISS 3