أناتول ليفين

شبه جزيرة القرم تتحول إلى مسألة شائكة في أوكرانيا

19 نيسان 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

جنود أوكرانيون يرفعون علم بلادهم فوق دبابة تشالنجر 2 | شباط ٢٠٢٣

بدأت الحكومة الأوكرانية تشهد اختلافات واضحة حول صوابية أن يصبح استرجاع شبه جزيرة القرم هدفاً غير قابل للتفاوض في خضم جهودها الحربية، أو الاستعداد لمقايضة سيطرة روسيا المؤقتة في شبه الجزيرة مقابل تنازلات روسية في أماكن أخرى على الأقل. قد تُسبب هذه المسألة شرخاً عميقاً بين كييف والحكومات الغربية التي تخشى أن تبدي موسكو استعدادها لتصعيد الوضع وصولاً إلى شن حرب نووية بسبب شبه جزيرة القرم ومساعي السيطرة على القاعدة العسكرية المهمة استراتيجياً في سيفاستوبول. بدأت هذه المسائل تزداد إلحاحاً فيما تستعد أوكرانيا لإطلاق هجوم قد يسمح لها بقطع الطريق البرّي بين روسيا وشبه جزيرة القرم.



تكشف أبحاثي الخاصة في أوكرانيا، خلال الشهر الماضي، أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سيواجه صعوبة كبرى محلياً في دعم وقف إطلاق النار وترك شبه جزيرة القرم بيد روسيا. لن يصطدم هذا التوجه بمعارضة قوية من القوميين المتشددين والجيش الأوكراني فحسب، بل إن الحكومة الأوكرانية ساهمت في نشر فكرة عامة عن ضرورة استرجاع شبه جزيرة القرم بأي ثمن.

في موقف مختلف عن خط الحكومة السابق، صرّح الدبلوماسي الأوكراني المخضرم ونائب رئيس الفريق الرئاسي، أندريه سيبيها، لمجلة "فاينانشل تايمز" في الأسبوع الماضي: "إذا نجحنا في تحقيق أهدافنا الاستراتيجية في ساحة المعركة ووصلنا إلى الحدود الإدارية لشبه جزيرة القرم، سنبدي استعدادنا لفتح صفحة دبلوماسية جديدة لمناقشة هذه المسألة... لكن لا يعني ذلك أننا استبعدنا خيار تحرير [شبه جزيرة القرم] على يد جيشنا".

لكن في مقابلة جديـدة أعادت "إذاعة أوروبـا الحرة" بثّها، اتخـذ مستشار آخر للرئيس زيلينسكي، وهو الصحافي السابق والسياسي القومي المتشدد، ميخايلــو بودولياك، موقفاً مختلفاً بالكامل عن سيبيها، فاستبعد إقرار أي تسوية مع روسيا وتساءل: "هل يمكن أن تحصل محادثات لإيجاد مخرج دبلوماسي لمسألة شبه جزيرة القرم؟ نعم، طبعاً، شرط أن تبدأ [موسكو] بسحب تلك القوات العسكرية اليوم. ثم يمكننا أن ننتظر يوماً، أو يومين، أو ثلاثة أيام، إلى أن تغادر تلك القوات مع السكان [الروس]".

بعد انسحاب روسيا من جميع الأراضي الأوكرانية، يقول بودولياك إن المفاوضات يُفترض أن تتمحور حول تعويضات روسيـــا لأوكرانيا ومعاقبـــــة مرتكبي جرائم الحرب، فضلاً عن إنشاء منطقة منزوعة السلاح تمتد على مسافة مئة كيلومتر، على الجانب الروسي من الحدود. تطرّق بودولياك أيضاً إلى مسألة مهمة أخرى حـين تكلم عن استرجاع أوكرانيا للأراضي التي تسيطر عليها روسيا منذ العام 2014، لا سيما مصير السكان الذين يُعتبَرون تاريخياً مقرّبين من روسيا. هو وَصَف سكان شبه جزيرة القرم الموالين لروسيا بعبارة "العبيد المصابين بموت دماغي"، فقال: "يجب أن نغلق كل ما له صلة بالمساحة الثقافية الروسية هناك. ويجب أن نستأصل كل ما هو روسي. يُفترض أن يقتصر المكان على مساحة ثقافية أوكرانية أو مساحة ثقافية عالمية. ويجب ألا نتحاور حول أحقية البعض في استعمال اللغة الروسية أو عدم استعمالها... ويجب ألا يقول أحد العبارة التالية: "قد يكون هؤلاء جزءاً من شعبنا... ربما نحتاج إلى التحاور معهم حول مواضيع معيّنة". لطالما فاجأني مفهوم إعادة التكامل بين العامين 2014 و2015 والفكرة التي تدعو إلى إعادة دمج الأراضي المحتلة بكل سرور. العصابات تعيش هناك، والمجرمون يعيشون هناك، والجيوش والإدارات المحتلّة تعيش هناك، ومع ذلك لِنُعِد دمجهم معنا بكل سرور... هم يستحقون الطرد، ويُفترض أن يصبح البعض قيد الاعتقال".

لكن لا يوافق معظم الأوكرانيين الذين قابلتُهم في الشهر الماضي، خلال الأسابيع الثلاثة التي أمضيتُها في البلد، على هذه الرؤية التي يعتبرها الكثيرون حـول العالم مرادفة للتطهير العرقي. عـبّرت أغلبية واضحة من هؤلاء الأوكرانيين عن تأييدها لعودة شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا، على أن تُفرَض تدابير (غير محددة) لإعادة دمج سكانها بطريقة سلمية.

لكن تظن أقلية واسعة أن أوكرانيا يجب أن تستعد للتخلي عن شبه جزيرة القرم مقابل السلام واستعادة الأراضي التي استولت عليها روسيا منذ شباط الماضي. تختلف الأسباب التي طرحوها لتفسير موقفهم، لكن تتمحور أبرز المبررات حول ثلاث أفكار أساسية: "ستستمر الحرب إلى الأبد من دون هذا التنازل"، أو "لم تكن شبه جزيرة القرم جزءاً من أوكرانيا يوماً" (كانت قد نُقِلت من جمهورية روسيا السوفياتية إلى جمهورية أوكرانيا السوفياتية في العام 1954 بموجب مرسوم سوفياتي)، أو "ربما يطرح سكان شبه جزيرة القرم الموالون لروسيا مشكلة داخلية دائمة في أوكرانيا". وفق استطلاع رأي من شهر تموز الماضي، قال 58% من الأوكرانيين إن شبه جزيرة القرم يجب أن تعود إلى أوكرانيا. يعكس هذا التوجه رأي معظم المشاركين في الاستطلاع، لكن لا تشكّل نسبتهم أغلبية ساحقة.

برز اختلاف واضح بين الموقفَين بشأن شبه جزيرة القرم والتفاوض على السلام مع روسيا. تكلم معي معظم من قابلتُهم واعتبروا عودة شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا مسألة أساسية وغير قابلة للتفاوض بشكلٍ رسمي، لكن لم يكن أيٌّ من مؤيدي تقديم التنازلات مستعداً للتكلم علناً.

قال لي منشق سابق من الحقبة السوفياتية (وهو من أبرز مناصري الثورة البرتقالية في العام 2004): "يظن عدد كبير من الناس طبعاً أننا مضطرون للقتال إلى أجل غير مُسمّى من أجل استرجاع شبه جزيرة القرم، وبغض النظر عن حجم الخسائر. لكن يعرف أكثر الناس عقلانية أن هذا الوضع مستحيل. تتعلق المشكلة الحقيقية باستحالة أن يُعبّر الفرد عن هذا الرأي علناً من دون أن يخسر عمله أو يتعرض لعواقب أسوأ بعد. في عهد الاتحاد السوفياتي، كان الناس يخشون التعبير عن آرائهم الحقيقية، وأظن أن وضعاً مشابهاً يسيطر على أوكرانيا اليوم. تنجم هذه الظروف عن مشاعر الغضب والكره التي سيطرت على السكان بسبب الغزو الروسي، لكنها تتعلق أيضاً بقمع الدولة. كل من يؤيد التوصل إلى تسوية مع روسيا يُعتبر خائناً تلقائياً ويستهدفه جهاز الأمن الأوكراني سريعاً، حتى لو كان يُعبّر دوماً عن دعمه لحرية أوكرانيا واستقلالها".

كما حصل في معظم الحروب الأخيرة، يترسخ هذا الجو العام بسبب سيطرة الدولة على قنوات التلفزة التي أصبحت شبه موحّدة في توجهاتها على مستوى الأخبار والتحليلات التي تبثها منذ قمع قنوات اعتُبِرت موالية لروسيا. اليوم، يُعبّر كل من يظهر على التلفزيون عن دعمه للخط الحكومي (أو ربما خط الحكومة السابقة)، ما يعني أن استرجاع شبه جزيرة القرم وشرق دونباس هو موضوع غير قابل للتفاوض. تزيد قوة هذه الحملة نتيجة الضغوط التي تتعرض لها وسائل الإعلام المطبوعة. في هذا السياق، أخبرني صحافي من مدينة دينبرو أن "أكبر مشكلة تتعلق بجو الرقابة السائد في كل مكان. لا أحد يُصدِر أمراً مباشراً، لكن يعرف الجميع أن كتابة آراء معيّنة تُعرّضهم لمشاكل مريعة مع أرباب عملهم والأجهزة الأمنية. لهذا السبب، تنحصر النقاشات في الوقت الراهن داخل مساحات ضيقة جداً".

تعليقاً على الموضوع، يقول المحلل الأوكراني فولوديمير إيشينكو إن هذه العوامل أطلقت "دوامة من الصمت" حيث تغيب الآراء التي يتبناها الكثيرون سرّاً عن الأوساط العامة.

سواء نجح الهجوم الأوكراني المُخطط له وأوصل القوات الأوكرانية إلى حدود شبه جزيرة القرم، أو فشل الاعتداء ورسّخ الجمود القائم إلى أجل غير مُسمّى، ستواجه أوكرانيا على الأرجح دعوات متزايدة من الحكومات الغربية لتقديم شكلٍ من التنازلات المؤقتة عن الأراضي لصالح روسيا، تزامناً مع التهديد بتقليص المساعدات الغربية. يكشف تصريح سيبيها أن بعض المسؤولين الأوكرانيين يدرك هذا الواقع على الأقل.

لكن كما يحصل في حروب كثيرة، كانت الحملة الدعائية الحكومية، التي تهدف إلى تشجيع الشعب على القتال، كفيلة بخلق ما يسمّيه أحد المحللين الأوكرانيين "وحش فرانكشتاين" على مستوى التوصل إلى تسوية مع روسيا. ساهمت تلك الحملة في نشر هذا المزاج العام لكنها تعجز عن السيطرة عليه الآن. يقول أوليكسي دانيلوف، سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني: "أي اقتراح من الرئيس فولوديمير زيلينسكي لإجراء محادثات سلام بين كييف وموسكو سيكون مرادفاً لانتحاره السياسي". لم يُعلّق زيلينسكي بعد على تصريحات سيبيها لهذا السبب على الأرجح. يظن المحللون الأوكرانيون الذين قابلتُهم أن تكثيف الضغوط العلنية من واشنطن هو الحل الوحيد لدفع زيلينسكي إلى الموافقة على إقرار تسوية بشأن الأراضي، حتى لو شعر الرئيس الأوكراني شخصياً بأنه مضطر للرد على تلك الضغوط عبر الاحتجاج عليها علناً.


MISS 3