د. ميشال الشماعي

سقوط دُوَيلة "كلّ مين إيدو إلو"

27 نيسان 2023

02 : 00

لا يساوِرُ الشّكُّ أحداً أنّنا لا نعيش اليوم في دولة سليمة الجسد المؤسّساتي والرّوح الكِيانيّ. ولعلّ هذا الخطأ المعمِّر بوجودنا في هكذا شبه دولة، سيشكّل حتماً الضربة القاضية التي تؤجِّل حتميّة السقوط، ريثما يصدر القرار. والإشكاليّات توالت منذ ولادة هذه الدّولة عمليّاً في الأوّل من أيلول العام 1920. ولكن المعالجات الخاطئة أحياناً، والنّاقصة أحياناً كثيرة، جعلت من وجود هذه الدولة حالةً مستعصيةً. حتّى بتنا نعيش في حكم اتّحاديٍّ بين منظّمة مسلّحة لها دويلتها الخاصّة، ومنظومة فاسدة لها أشلاء دولتها، حتّى بات البلد برمّته دويلة «كلّ مين إيدو إلو».

الأحكام لم تعد قضائيّة، بل استحالت أحكاماً شبه عرفيّة صادرة من محاكم هويّتها من صنع هذا الاتّحاد. والإعلام تمّ توجيهه خدمةً لهذا المشروع. فكلّ مَن يجرؤ على المواجهة، يواجَه بتهم العمالة من قبل الجيوش الالكترونيّة التي لا توفّر أيّ مصطلح من قواميس الشتائم الجاهزة للاستعمال. ولم يتوانَ قياديّو المنظمة لحظة عن التهديد بسابع من أيّار جديد. لكن فاتهم أنّ مَن يُقدِم على هكذا عمل، فبأقلّ تعديل يجب أن يحظى برضى جمهوره ومؤيّديه أوّلاً. هذا الجمهور الذي خرج من تحت عباءة المنظّمة وحليفها «الحَرَكِيّ» ليس لشيء، إلّا لأنّه عاين جهنّمهما بأمّ عينيه، ولمس حضيضهما وهو عاري القدمين.

ولأنّ هذا الفريق بالذات لم يعد قادراً على ممارسة أعماله بالطريقة نفسها، تعمّد تسييب دويلته ليُسكِتَ عنه مُقَاسِمِيْهِ غنائم هذه الدّويلة. وما الأحكام التي صدرت مؤخّراً إلا دليل على مدى هشاشة هذه الدّويلة التي مهما بلغت من شأنٍ لن تتمكّن في يوم من أن تصبح دولة. ومخطئ مَن يصنّفها بأنّها تعيش فدراليّتها الخاصّة لأنّها تعيش حالةً فطريّةً على حساب الدّولة المركزيّة المحتضِرَة. وهي تحافظ على الحدّ الأدنى من عيشها معزولةً في بيئتها لصدّ أمواج النّمذجة بالتحرّر عبر كاسرٍ إيديولوجيٍّ نجحت في بنائه لمجتمعها طوال أربعة عقود.

لكنّ اليوم كاسر الموج هذا لم يعد يقوى على مجابهة ارتفاع أمواج التغيير، لسببين اثنين: الأوّل وهو ثبات الفريق المواجِه بمواقفه منذ اكثر من نيّفٍ وعقدٍ، بغضّ النّظر عن كلّ ما تعرّض له هذا الفريق. والثاني يتمثّل بانكسار حاجز الخوف نتيجة الجوع الذي عمّ المجتمع اللبناني برمّته. وما عاد المورفين الإيديولوجي يسكّن هذه الثورة الاجتماعيّة القادمة حتماً.

فعلى ما يبدو أنّ سياسة «دويلة كلّ مين إيدو إلو» باتت من أولويّات أجندة حكومة تصريف أعمال اتّحاد الشرّ، التي تجاوزت الحدود القانونيّة لتصدر مجموعة قرارات أقلّ ما يُقال فيها إنّها غير دستوريّة. ولكن فات هذه الحكومة بالذات أنّها ليست وحيدة لأنّها على ما يبدو ستوَاجَه بالحدّ الأدنى من المؤسّسات المتبقية عبر تقديم الطعون إلى مجلس شورى الدّولة.

كذلك، فإنّ مجلس نواب هذه الدّويلة يشرّع غبّ الطلب، ويستغلّ مصالح بعض صغار النّفوس والمستضعفين ليؤمّن أكثريّة بهدف الانقلاب على دوره الحقيقي وواجباته الطبيعيّة التي تبدأ بانتخاب رئيس الجمهوريّة ليعود انتظام دولة المؤسّسات. ولكنّه بالطبع لن يقدِمَ على ذلك حيث يكون قد أسقط نفسه بنفسه. بل يستخدم التذرّع بالاستثناء لتحويله إلى قاعدة كما دأب على ذلك منذ تاريخ تأسيس اتّحاد الشرّ هذا.

خريطة الطريق واضحة. ونماذج الحكم في الدّول التعدّديّة ماثلة أمامنا. وقد يكون النموذج البلجيكي في إدارة مؤسسات الدّولة الأمثل ليبطِل مفعول «دويلة كلّ مين إيدو إلو» التعطيليّ، وليعيد الانتظام إلى مؤسّسات الدّولة اللبنانيّة؛ لأنّ التجارب أثبتت أنّ أيّ تعطيل في النظام البلجيكي لا يؤثّر سلباً في سير المؤسّسات التي تؤمّن انتظام حياة النّاس بمختلف انتماءاتهم.

أمّا بالنسبة إلى الصيغة السياسيّة، أو ما اصطلِحَ على تسميته بالتركيبة اللبنانيّة، فلم تعد صالحة، ولا إمكانيّة لإنعاشها لا بـ»دوحة 2» ولا حتّى بـ»طائف 2». ما نحن بحاجة إليه اليوم بكلّ تجرّد هو إعلان لبنان جديد على غرار إعلان الأوّل من أيلول 1920، يؤمّن انتظام العيش الكِيَاني للمجموعات الحضاريّة اللبنانيّة. وذلك في اتّحادٍ ديمقراطيّ برلمانيّ دستوريّ على قاعدة لامركزيّة فدراليّة أو غير، سمّوها ما شئتم؛ يكون فيه الرئيس «الملك» الذي يحكم ولا يملك إلى الأبد.

لكنّ أيّ شيء من هذا القبيل لا يمكن تحقيقه قبل تحقيق المساواة في موازين القوى داخليّاً. وهذا ما لن يتحقّق لا بحربٍ داخليّة ولا بتفاهمات ذميّة، بل بتوافق إقليميّ - دوليٍّ يبدو أنّه بات قريباً جدّاً، لأنّ مَن يدخل في الصفقات الترسيميّة الاقليميّة لا يمكن ألا يقدّم تنازلات للصالح العام الإقليمي والدّولي. ويبدو أنّ هذا التنازل قد بدأت بشائره تلوح من اليمن إلى سوريا فالعراق وانتهاءً بلبنان. وعندها فقط ستسقط «دويلة كلّ مين إيدو إلو» وسيعود لبنان دولة سيّدة حرّة ومستقلّة. وإنّ غداً لناظره قريبٌ جدّاً.


MISS 3