أحمد عياش

صائب سلام عن لقائه بشير الجميل: كان حديثاً مستفيضاً... من أروع الأحاديث

29 نيسان 2023

02 : 00

في كتابه الجديد "شخصيات لبنانية وعربية وعالمية عرفتها"، كم بدا رئيس الوزراء الراحل صائب سلام، مدوّناً بإمتياز لمذكرات رجل سياسي عاش عمراً مديداً إمتد من عام 1905، عندما كان لبنان جزءاً صغيراً من السلطنة العثمانية التي كادت مساحتها لا تغيب عنها الشمس في اوج سيطرتها في القرون الخالية، وعبر شاباً يافعاً امبراطورية فرنسية خرجت منتصرة بعد الحرب العالمية الأولى العام 1914 وشريكة في إقتسام اسلاب السلطنة مع نظيرتها البريطانية، وصولاً الى دولة الاستقلال في لبنان بدءاً من عام 1943 وصولاً الى اتفاق الطائف عام 1989.



بعد 23 عاماً، على غياب الزعيم الكبير صدر كتابه، الذي ضم، في مئة صفحة من حوالى 600، سجلاً بعلاقة سلام بكل رؤساء الجمهورية في لبنان بدءاً ببشارة الخوري وإنتهاء بأمين الجميّل. وما دوّنه سلام حول هذه العلاقات يصيب القارئ بإحباط يجعل رأسه يدور وهو يتابع فصولاً عاصفة من علاقات لم تكن يسيرة على الاطلاق، بإستثناء ما دوّنه سلام عن معرفة قصيرة الاجل عن علاقته بالرئيس المنتخب بشير الجميل، والذي توسّم فيه خيراً للبنان لو لم يتم إغتياله قبل ان يصل الى قصر الرئاسة الأولى.


بشير الحميل




الى جانب الذكريات العاصفة، ينفرج من خلال هذه الأجواء المدلهمة، بعض الصفاء الذي قصد هذا المقال التشبث بها، لأن كل الذين طالتهم العاصفة، كما صاحب هذا الكتاب، قد اصبحوا في ذمة الله، بإستثناء الرئيس امين الجميل الذي نرجو له العمر المديد والسعيد على السواء.



سليمان فرنجية



في الجانب المشرق من علاقات الرئيس صائب سلام مع رؤساء لبنان، يروي سلام عن بشارة الخوري: "كان بشارة الخوري في رأيي- وبالنسبة الى زعماء لبنان- رجلاً كبيراً، يتمتع بصفات مميزة. وكانت شخصيته محببة وقريبة من القلب. وكان اديباً، مثقفاً، كاتباً وخطيباً، بالعربية والفرنسية، وذا ظرف ممتع وصاحب نكتة، مع تهذيب رفيع. وكذلك كان رحب الصدر، واسع الحيلة يعرف من أين "تؤكل الكتف". عرك السياسة وعركته وأتقنها على الصعيد اللبناني منذ عهد المتصرفية حين كان والده الشيخ خليل الخوري من أركان الإدارة فيها. وقد جعلت منه هذه الممارسة المتوارثة سياسياً لبنانياً عتيقاً، بكل معنى الكلمة... كان بشارة الخوري- كما عرف عنه بحق- من أصحاب النزعة العربية، وذلك لإنفتاحه على آفاق العالم الواسع، ومن خلال ثقافته العربية وإتقانه اللغة العربية. وفي رأيي، أن إخواننا المسيحيين الذي اتقنوا اللغة العربية، والذين يتمتعون بثقافة عربية، ومعظمهم من تلامذة مصر وتلامذة الحكمة في بيروت، كانوا اكثر ميلاً من غيرهم من اللبنانيين الى العـــرب والعروبة والإسلام".

ثم جاء الرئيس كميل شمعون من العام 1952 الى العام 1958، ويقول سلام: "مخضرم في حياته، فقد عاش في العهد العثماني، ونُفيَ وهو بعد فتى مع والده الى الاناضول، وذلك أثناء الحرب الكبرى الأولى التي بطش فيها جمال باشا السفاح بأحرار العرب... كانت قوّته في ما يسمونه الكاريزما، أي قوة تأثير شخصيته، ومنها الطلّة الوسيمة. وقد لازمته هذه الصفة حتى آخر يوم في حياته.



بشارة الخوري



أذكر ان مؤتمراً عربياً وإسلامياً انعقد في القدس عام 1936، وحضره أقطاب من المسلمين والعرب مثّلوا أقطارهم كافة. وإذا كان احمد زكي باشا المصري، هو الملقّب بـ"شيخ العروبة"، كان هناك شاب عريق في مارونيته ولبنانيته، ومن بلدة دير القمر بالذات، وكانوا يلقبونه "فتى العروبة الأغرّ"، أما اسمه فكميل نمر شمعون".

ثم يأتي الرئيس فؤاد شهاب (1958-1964)، فيقول سلام: "كنت ممن رحبوا بالخطوة التي إتخذها الرئيس شهاب في اول عهده، وقبل مجيئي للحكم معه، وذلك حين جاء بفريق فرنسي على رأسه الاب لوبريه لدراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في لبنان. فكشف أسس الخلل الكبير في نظامنا، وكان في ما توصل اليه ان 96% من اللبنانيين يحصلون على 50% من إنتاج لبنان، بينما 4% فقط يحصلون على الـ50% الأخرى.



كميل شمعون



إن قصتي مع فؤاد شهاب طويلة جداً، إبتدأت من أيام ثورة 1958. فقد وقفت معه ضد تياري الإسلامي وجميع الأحزاب، ما عدا الكتائب وشمعون، يوم إستعمل حكمته وأقنع قائد القوات الأميركية بألا يدخل قلب بيروت فيهدمها تمهيداً للقضاء على الثورة.

أذكر بأن فؤاد شهاب كان حائزاً على تغطية ذات قيمة، بفضل علاقته بعبد الناصر التي بدأت في خيمة أقيمت على الحدود بين لبنان وسوريا عام 1958 يوم كانت سوريا ومصر في وحدة هي الجمهورية العربية المتحدة. وقد استمرت هذه التغطية له طوال حكمه".



شارل حلو


وعن الرئيس شارل حلو (1964-1970)، يقول سلام: "كان شارل حلو واسع الثقافة لا سيما بالفرنسية، وكان صحافياً بارزاً بهذه اللغة، ورئيس تحرير صحيفة "لوجور" التي كانت تصدر بالفرنسية أيضاً. لكنّه بذل جهداً ملحوظاً لتعزيز ثقافته ولغته العربية عندما وضع الرئاسة نصب عينيْه. وقد طلب مني قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية بمدة من الزمن أن أعطيه "ديوان المتنبي"، فأهديته إياه. ولا أستغرب ان يكون حفظ قسماً كبيراً منه، فهو ذو ذاكرة حادة جداً. وقد جاءني يوماً زائراً فلم يجدني في البيت، فترك لي بطاقة كتب عليها بيتاً من الشعر للمتبني يقول فيه:

وحالات الزمان عليك شتى

وحالك واحد في كل حال



فؤاد شهاب





ولا تزال هذه البطاقة في محفوظاتي. كثيراً ما ألقى شارل حلو خطباً ارتجالية يعرف الكثيرون أنه كتبها وحفظها قبل إلقائها... ويوم دخل المجلس النيابي معنا في "قائمة بيروت" عام 1951، كان يجلس بيني وبين حبيب ابي شهلا. ومع الأيام إكتشفنا أننا إذا نزعنا الخطاب المكتوب سلفاً من جيبه فإنه سيتلعثم ويتوقف عن الكلام".

ثم جاء الرئيس سليمان فرنجية (1970-1976)، فيقول سلام: "كان صلة الوصل بيني وبين سليمان إثنان: محمد كرامي صديق الطرفيْن، وإيريس الهنديلي، التي أصبحت في ما بعد زوجة سليمان فرنجية. وكنت اعرف إيريس منذ طفولتها لصداقة وثيقة بين عائلتنا وعائلة الهنديلي الطرابلسية الارثوذكسية. وإذ كنت في تلك الأيام مولعاً بالرياضة، فقد كنت احمل إيريس بيد واحدة، وارفعها الى فوق وهي ابنة 12 سنة.

لم يتخلص سليمان من عقلية الضيعة حتى بعد ست سنوات أمضاها في رئاسة الجمهورية. عرف بالعنفوان والشهامة، وهو رقيق الشعور والعاطفة الى ابعد الحدود حيناً، وجبلي خشن وقاس في كثير من الأحيان. أصبح زعيماً بعدما أقعد المرض أخاه حميداً، وتوثقت صداقتنا وزمالتنا أثناء ثورة 1958 وبعدها. وقد دخل معي في ما كان يسمى كتلة سلام النيابية، أو كتلة الوسط كما سميّتها في ما بعد. رشحته لرئاسة الجمهورية أول مرة عام 1964 وكان دخوله الحكومة موضع إستغراب الكثيرين بسبب قلة علمه وثقافته العامة.





يفخر فرنجية (عندما أصبح رئيساً للجمهورية عام 1970) بـأنه نال ثقة الشعب بفارق صوت واحد".

الى عهد الرئيس الياس سركيس (1976-1982) يقول سلام: "كان هادئاً متبصراً بالامور، لا ينقصه فهم ولا إلمام بالسياسة. وكان سركيس- مثله مثل كل مسؤول- يتعرض للاتهام في نظافة كفه. ولكنني شخصياً لا أجزم بشيء من ذلك.

عند إنتخاب سليمان فرنجية قاومنا الياس سركيس ونجحنا. ثم حاولنا ان نقاومه عام 1976 لحساب ريمون إده- وكنا عشرة نواب متضامنين- ولكن فشلنا بسبب تأييد سوريا له بكل ما لديها من وسائل. كما ان الياس سركيس أقسم اليمين الدستورية في شتورا وليس في بيروت، إذ كانت شتورا تحت سيطرة السوريين. وعندما فاز سركيس بالرئاسة جمعت النواب العشرة المعارضين مرة أخرى، وفي مقدّمهم ريمون إده. وبعد ان أقنعتهم بتأييده، لنتبيّن خيره من شره- فهو اصبح رغماً عنا رئيساً للجمهورية- أخذت الهاتف واتصلت به وقلت له: إننا هنا فلان وفلان وفلان قررنا ان نهادنك لنرى ما سيصدر عنك من تصرّف، ومن خط سياسي وعندها يكون لنا موقف. لكنه، مع الأسف فعل ما كان منتظراً منه، فلم يحقق حتى الحد الأدنى المطلوب من رئيس الجمهورية".

والى الرئيس بشير الجميل (1982)، يقول سلام: "لم تكن تربطني ببشير الجميل علاقة من أي نوع كان. فهو شاب من اول العمر، لم يخرج الى الحياة العامة إلا في الحرب اللبنانية. وكنت تعرّفت اليه عبر إتصالاته الهاتفية الكثيرة بي، حيث كان يكرر عليّ انه يعتبرني كوالده.

وقد سئلت مراراً عما كنت أنتظره من رئاسة بشير، وكنت أجيب دائماً بأن رئاسة هذا الشاب قد تأتي على لبنان بالخير العميم، كما يمكن أن تكون شراً مطلقاً على هذا البلد.



غلاف الكتاب



عندما فاز بالرئاسة إنقسمت الآراء: فمنهم من أراد السير بالمعارضة الى نهايتها ونكران شرعية إنتخابه. ومنهم- وكنت في مقدّمهم- من رأى عدم صحة ذلك في الظروف القائمة، بل علينا العمل على إستكشاف سياسته.

ودعاني الرئيس سركيس الى غداء في منزله القريب من قصر الرئاسة يضم بشيراً فوافقت. ودامت مقابلتنا أنا وبشير عدة ساعات قبل الغداء وبضع ساعات بعده. وكان للمقابلة تأثير كبير على الجمهور الإسلامي، خصوصاً لما بدر من بشير من تصرف فيه لياقة ومجاملة شاهده الناس على شاشة التلفزيون وسمعوه مني بعد المقابلة.

كان حديثاً مستفيضاً، من أروع الاحاديث، والله وحده يعلم ماذا كان سيعطي بشير. لكن لا احد يموت قبل اوانه. فالكلام الذي نطق به امامي كان كلاماً كبيراً. لقد حدثني في البدء عن لقائه القريب بالاسرائيليين، وقال لي: "خنقوني يا صائب بك، ولكنني لن أمشي معهم". وسألته: "أكيد لن تمشي معهم؟". فأجاب: "لا، لن أمشي ابداً".

وأخيراً الرئيس أمين الجميل (1982-1988)، فيقول سلام: "كان امين الجميل يعطي الصورة بأنه منفتح على المسلمين وعلى العرب. وهو- رغم شبابه- واسع الثقافة، ما يجعل الامل فيه كبيراً ليكون رئيساً، ما شجعني أيضاً على تأييد أمين الجميل للرئاسة ما كنت قد لمسته من أخيه بشير بعد إنتخابه من إيجابيات أملتني به- أي يشير- خيراً. فاعتقدت ان هذه المسيرة سيكون من السهل الاستمرار فيها مع أمين خصوصاً على صعيد التفهم والتفاهم. للأسف، وكما فشلنا مع كل رئيس سابق، فقد كان فشلنا مع أمين أشد".

هذه عصارة من كتاب كبير خطّه صائب سلام. كان القرار ان تكون العصارة في هذا المقال ذات مذاق حلو. لكن في واقع الامر، هناك في هذا الكتاب الكثير من المذاق المر. غير ان هذا شأن المؤلف، كما سيكون شأن القارئ، إذا ما قرر الإبحار في كتاب يصل بين ازمنة تقلبت فيها أحوال لبنان والمنطقة والعالم.


MISS 3