حسان الزين

تعود بروايتها "TOP CAMERA" إلى بلدتها بنت جبيل لإلتقاط الماضي فلا تجده

فاديا بزي: يحرقون المدينة وإعادة بناء الريف محزنة أكثر من تدميره

29 نيسان 2023

02 : 00

فاديا بزي تدخل الرواية من بوابة الحنين (تصوير فضل عيتاني)
فيما تسقط بيروت، التي لجأ إليها كثيرون بحثاً عن العيش والعلم والعمل، فريسة الأزمة السياسية والانهيار الاقتصادي والضائقة المعيشية، تأخذنا الكاتبة فاديا بزي إلى الريف. لكنّ هذه الرحلة المعاكسة التي بدأها الأجداد والآباء والأمّهات لا تبدو مفرحة أيضاً. ففيما يحضر الماضي وأماكنه وعوالمه وشخصيّاته، بقوّة الحنين، يصدمنا الواقع الذي محا الآثار، وحوّل الحنين إلى متاهة تجعل الماضي وأماكنه وشخصيّاته فعل مقاومة للذاكرة بل للتخيّل. وهذا قاسٍ ومضنٍ أيضاً، إذ لا أثر للعالم الذي غاب، ولا للأحباب، ولا حتّى لمن يتذكّر ويحنّ وما زال على قيد الحياة. هكذا، تبدو رواية فاديا بزي ألماً طويلاً متجدداً وعميقاً لإنسانة لبنانية ترهقها المدينة وحاضرها وتبحث عن الريف والماضي فلا تجدهما، وتحاول بعناد روائي التقاطهما بكاميرا الخيال. هنا، حوار مع الكاتبة:

فيما تبدو كتابتك الروائية وكأنّها تستفيد من خبرتك الإعلامية يُطرح سؤال عما إذا كنت تهربين في الأدب من السياسة والأخبار والصحافة؟

لم تكن الكتابة بالنسبة لي هروباً من وطأة العمل وانشغالاته بل كانت والعمل كخطين متوازيين أحدهما يسير على إيقاع منضبط محكوم بطبيعة عملي كإعلامية في محطة "الجديد"، هنا ألاحق المعلومة وأتابع تفاصيلها قبل أن تتحول خبراً أو مقدمة لنشرة الأخبار على الشاشة، وينتهي دورها للعودة على بدء. الروتين العملي وسرعة الأخبار وأحداثها جعلا من ذاكرتي جداراً عازلاً، إذا صحّ التعبير، أفرغ عليه ما أودّ قوله في الأدب، وما لم أقله في الصحافة، أو لم أجد له مكاناً في الصحافة. وهنا، انفصل عالمي إلى عالمين، واحد يقيم في الواقع وآخر في الخيال ومقرّه الذاكرة. وعلى مرّ السنين، ناء الجدار بحمله، وكادت حجارته تتداعى. وبما يشبه الهلوسة، تلقيت صفعة من الذاكرة على شكل جملة TOP CAMERA. وبدأت الأحداث المطبوعة فيها تتسلل منها إلى القلم فالورقة.

يوحي كلامك وكأنك استسلمت، في روايتك، للحنين إلى زمن مضى وأماكن تغيّرت وأشخاص رحلوا. لماذا فعلت هذا؟

كانت كتابة الرواية حلماً تائهاً بالنسبة إلي، وعندما اهتديت إلى مفتاحها، دخلت إلى فضائها من بوابة الحنين، ومن الأحداث التي عشتها والتجارب التي مررت بها في أقصى مكان في حياة الإنسان، ألا وهو مرابع الطفولة. ومن هناك كانت نقطة الانطلاق. تلك المرحلة بكل تفاصيلها التصقت بي، كبرت معي، خفت أن تشيخ ويدركها الموت فأوقفت زمنها على الورق. وكي لا تضيع تلك المرحلة الممتدة في الزمن الروائي من العام 1969 حتى العام 1978 تاريخ الاجتياح الإسرائيلي الأول لجنوب لبنان وخلفياته، اخترت شخصية والدي، محمود الأبوكاتو عامل الأحذية، مدخلاً أساسياً للفضاء السردي كعنوان للنضال في تلك المرحلة بشتى أشكاله، وكنموذج موروث من الجد للأب فالأحفاد، لإضافة ما أرسته تلك المرحلة في السياسة والتأثيرات التي تركتها لاحقاً على المشهد السياسي وتداعياته.

ومن خلال محمود الأبوكاتو أردت إحياء شخصيات من لحم ودم سقطت من "التذكرة"، والإمساك بأخرى ليست حقيقية لكنها واقعية تواطأ على تكوينها الواقع والخيال.

وإلى أهمية الشخصيات التي لعبت أدوارها على مسطّح السرد، كان المكان بالنسبة إلي هو "البطل" أو الشخصية الوهمية. وهنا، تداخل عملي الصحافي مع الأدبي حين قمت بتغطية عدوان تموز عام 2006 ووصلت إلى بنت جبيل (بلدتي) وإلى "حاكورة نصّ الضيعة" ملعب طفولتي، وقد صارت كومة من ركام.





في كلامك الآن، كما في روايتك، لا يظهر الحزن مرافقاً للحنين فحسب، بل ناتجاً من الحاضر؟

الحزن الذي شعرت به بعد رؤية الدمار تضاعف عندي بعد إعادة الإعمار، فالبلدة فقدت روحها، والأمكنة ارتدت أشكالاً لا تشبهها، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية أصبحت مقنّعة! لذلك، أردت في روايتي TOP CAMERA أن أعيد ترميم تلك الروح، وأعيد بناء تلك الأمكنة، ولو على الورق رفضاً لموتها.

لم تشكل الكتابة ممراً آمناً للهروب من السياسة وأحداثها اليومية، بل كانت من صلبها. وما اختيار ذاك الزمن الروائي، إلا للتأكيد أنه يصلح لكل الأزمنة، إذا صحّ التعبير، لما عاشه الواقع السياسي في لبنان من حرب وسلم. فهل بيروت اليوم هي نفسها بالأمس؟ أسأل بغصّة وأنا أرى المدينة تهوي إلى قعر لا قرار له.

بيروت اليوم هي الوجه الآخر لبنت جبيل التي انسلخنا عنها بالقوة. وها نحن اليوم ننسلخ عن مدينتنا "بقوات متعددة الجنسيات" سياسية، مالية، اقتصادية وأمنية وغيرها. نعم، نحن نعيش اليوم احتلالاً من جنرالات الحروب وأمرائها على هيئة زعماء. وهو ما سيفرضه الأمر على أي روائي غداً، إذ لن يستطيع أن يتناول المدينة بمعزل عمن يحرقها ويرفع الأنخاب على جثتها!

وكيف كانت، أثناء الكتابة، علاقتك بذاك الزمن وتلك الأمكنة، والأهم بالشخصيّات؟

بالنسبة إلي، لا بد للكاتب من مبتدأ، وهذا المبتدأ تطلب أكثر من خبر في روايتي، حيث حاولت أن أنغمس في الفردانية وأن أسوق الشخصيات كلّ ضمن سياقها، لكنّها تمرّدت عليّ ورسمت كل شخصية منها خريطة طريقها وخطّ سيرها إلى أن أصبحتُ في لحظة معينة "كالمتفرّج" عندما استقلّت كل شخصية بهويتها. وهو ما أفرحني وجعلني في الوقت نفسه أحجز مكاناً لي من خلال شخصية فاديا الطفلة الشقية والذكية التي أصبحت في ما بعد صحافية ووقفت في المكان نفسه، في ملعب الطفولة "حاكورة نصّ الضيعة" لتنقل الخبر. ومن هذه الزاوية، كتبت الماضي بتقنيات الحاضر وبالاستعانة بأدواته عبر كتابة مشهديات مترابطة، وكأن مَن يقرأ الرواية يشاهد شريطاً مصوراً. وهو ما أسرّ لي به أكثر من شخص قرأها. وبالفعل، حصل الأمر هكذا، فنحن عندما نتذكر أو عندما نحلم أو نتخيل يمر ما نفكر فيه على شريط في الذاكرة، أو فيّ. وهكذا، اكتسبت TOP CAMERA شخصيتها الروائية من هذه المشهدية.

تبدو علاقتك بالأمكنة، الضيعة في الرواية، والمدينة في معيشتك، وكذلك بالواقع الراهن وأحواله، متوتّرة، أو ليست على ما يُرام؟

كل الأمكنة في العالم الروائي تناديك. ما انسلخت عنه يشدك الحنين إليه. والمكان الذي تعيش فيه يفتح لك آفاقاً نحو أماكن لم تزرها، وإن لم تستطع رؤيتها فتبلغها بقراءة رواياتها أو بمشاهدة أفلامها. وربما لأنني فقدت ارتباطي بالمدينة التي أحببت وعشقت، والتي ابتلعتني قبل أن تلفظني وتأخذ مني جلّ عمري، كان السبب في الهروب إلى ملجأي الأول، من خلال الرواية، وتالياً كتأريخ لحقبة جميلة وكتحية لروح والدي محمود الأبوكاتو آخر الفدائيين الحمر في زمن ما عاد فيه من منتَظَر ينشلنا من قعر خيباتنا وهزائمنا!

بالنسبة إلي، وفي زمن اجتياح وسائل التواصل والانفتاح الهادر عليها وعملية الإلهاء الكبرى والممنهجة عن الثقافة والأدب والكتاب والفكر والمسرح، فإن الرواية اللبنانية كغيرها من الأنواع الأدبية والفنية تنازع للبقاء. وكان نشر روايتي TOP CAMERA بمثابة تحدٍّ في الزمن الصعب، مني ومن الناشر، "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر". وكان القرار فعلاً من أفعال المقاومة الأدبية للراهن المزري. وكما قال المخرج المصري الراحل يوسف شاهين، في فيلم "المصير": "الأفكار لها أجنحة... ما حدّش يقدر يمنعها توصل للناس". ومَن يدري قد يكتب التاريخ يوماً أنه كان لنا شرف المحاولة...


وجع وحس فكاهة


في رواية "TOP CAMERA" لفاديا بزّي، وقفت الكاتبة على أطلال تموز 2006، وأعادت بناء ما هدّمته الحرب في ذاكرتها، وانطلقت في رحلة استحضار مَن كانوا وسقطوا من الهويّة. جمّدت الزّمن بين لحظتين مفصليتين في تاريخ بنت جبيل (جنوب لبنان)، بين دخول الفلسطينيين والاجتياح الإسرائيلي عام 1978. استخرجت من تجربة عامل الأحذية محمود الأبوكاتو حبراً لقلمها فضخّت حنيناً موجعاً لم يخلُ من حسّ الفكاهة في الأمكنة وشخصياتها. وقطبة قطبة أعادت نسج العلاقات الاجتماعية ودور المرأة البارز في النّضال. وعلى مسطّح السّرد، بنت عوالم لموسى الأخوت وحمتّو المثلي ودغمان الضّائع بين هويتين وقصة حبّ هوليا التي بدأت بضربة قدر وانتهت بحقيبة سفر! وفي لحظة تبادلت الأزمنة الأدوار فكانت النهاية هي البداية.

MISS 3