حسان الزين

في الذكرى الـ25 لرحيله يستمر الإنقسام بشأنه وقصائده تُغنّى

نزار قباني: الحبُ مأسوي وهدفي كان تحرُّر المرأة والرجل العربيَّين

29 نيسان 2023

02 : 00

حدثان مرتبطان بالحب أثّرا في نزار قباني
لم يكن نزار قباني كافراً، لكن المحافظين طردوه من جنّتهم. ولم يكن تقليديّاً، لكن التقدّميين نفوه من عوالمهم. أزعج ديكتاتوريّين بقصائده. أما النساء فاستقبلن صورتهن في شعره بضمير الجماعة، منهنّ مَن خجلت بالعري ومنهن مَن احتفت بجرأته، لكنّ الصوت الغالب كان مع حبّه الحزين المفجوع.

مَن لم يقرأ نزار قباني؟ كثيرون وكثيرات، خصوصاً في سنوات المراهقة، أحبّوه وأخفوا دواوينه بين كتب المدرسة. وكثيرون، وكثيرات ربما، نفروا منه، أو بغضوه، أو لم يجدوا في قصائده شعراً عالياً لناحية اللغة والشكل، وعميقاً لناحية المضمون.

وكما في حياته (1923 - 1998) كذلك الآن، في الذكرى الـ25 لرحيله (30 نيسان)، لا إجماع في شأنه. وهو الذي قال "لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار". وقد تغذّى ذلك على صورته كشاعر مترف ودونجوان، وبفعل البروباغندا التي استهدفته بإدارة الأنظمة التي انتقدها. وقد التقى ذلك مع رفضه من فئات اجتماعية وأحزاب، تقليدية وتقدّمية، وجدت فيه نقيضاً لمعتقداتها وخطراً عليها، كما في السياسة كذلك في شأن المرأة والنظرة إلى المجتمع والحب أيضاً.

كتب: "كل الملصقات التي وضعوها على صدري، من شاعر المرأة، إلى شاعر النهد، إلى شاعر المراهقات، إلى شاعر المجتمع المخملي، إلى شاعر الدانتيل الأزرق، إلى شاعر الغزل الحسّي، إلى شاعر الإباحية، إلى الشاعر الفاجر، إلى الشاعر التاجر، إلى الشاعر الملعون، إلى الشاعر الرجيم، إلى شاعر الهزيمة والإحباط، إلى شاعر الهجاء السياسي... كل هذه الملصقات تساقطت كالورق اليابس على الأرض... وبقيت الأشجار واقفة".

وقد أسهم زمنه الصاخب بالأحداث بوضعه في معادلة مع أو ضد. وأسهم في ذلك أيضاً أنه كان صاحب موقف صارخ. وكان عاليَ الصوتِ وحادّاً، وحاضراً بقوّة في المشهد الثقافي، وغزيراً، وكتب عن أمور كثيرة تهم الإنسان العربي، وعن أحداث تاريخية. وإضافة إلى هذا، كان، وهو الدمشقي المولد، مقيماً في بيروت أيّام كانت عاصمة الأدباء والشعراء والفنانين العرب، والثقافة العربية، ومساحة الحريّة للمنفيين والفارين والمتمرّدين. وفي بيروت، التي سكنها بعد استقالته من العمل الدبلوماسي السوري في 1966، أسس دار نشر اختصّت في طبع وتوزيع دواوينه التي لم ينافسه شاعر في انتشارها.

كتب: "الشهرة ذبحتني... كيف يمكن أن أنام مع 200 مليون عربي في غرفة واحدة... وسرير واحد؟".

الحب والدونجوان

في الحب، لم يطلق نزار مشاعره ويرسم عالماً عاطفياً متفجّراً فحسب، بل يبدو وكأنه يشد القارئ إلى نمط من الحب والعلاقات العاطفية، والنظرة المتحررة إلى المرأة، والعيش عموماً. وقد كتب منير العجلاتي عن الديوان الأول لنزار، "قالت لي السمراء"، الصادر في 1944: "لا تقرأ هذا الديوان، فما كُتب ليُقرأ، ولكنه كُتب ليُغنّى، ويُشمَّ، ويُضمَّ، وتجد فيه النفس دنيا ملهمة".

لكنّ الحب الذي تمحور حوله شعر نزار، حتى بدا داعيته، ليس سلوكاً عنترياً أو دونجوانياً أو نزعة ذكورية. هو مرتبط بتحرر المرأة والرجل العربيين، اجتماعياً وثقافياً، كما قال. وقد تأسس ذلك على فاجعة شخصيّة عائلية تمثّلت بإنهاء إحدى أخواته حياتها بعدما منعتها الأسرة من الزواج من شاب أحبّته. وفي رواية أخرى، أنها أقدمت على ذلك لرفضها الزواج من شخص لا تحبّه.

ولم يكن الحب عند نزار دائماً هوى ورغبات وفرحاً ومرحاً، إذ فُجع ثانية بمقتل زوجته، العراقية بلقيس الراوي، جرّاء تفجير سفارة بلادها في بيروت في 1981. وقد كتب فيها قصيدة تحمل اسمها ومشحونة بالعاطفة ومحتشدة بنقد الأنظمة والقبائل العربية التي تتحارب وتقتل الياسمين والقصائد. ومن بعدها، قال، لا حب ولا نساء.

وقد عبّر عبد الحليم حافظ، بصوته الحزين وعلى لحن محمد الموجي، عن البعد الدرامي والمأسوي للحب عند نزار، وذلك من خلال أغنيتي "رسالة من تحت الماء" (1973) و"قارئة الفنجان" (1976). وكذلك فعلت نجاة الصغيرة التي غنّت: "أيظن" (1960)، "ماذا أقول له" (1965)، "إلى حبيبي" (1973) و"أسألك الرحيل" (1990) ، من ألحان محمد عبد الوهاب. فيما أخذت فيروز التي غنّت "أنت لي" و"وشاية" (1956) و"لا تسألوني" (1963) و"موال دمشقي" (1976) إلى العالم الرحباني.

وفي كتاب "قصتي مع الشعر"، يكشف نزار أنه "كان دائماً في داخلي يتصارع الرجل والشاعر". وإذ يروي أنه "نادراً ما وقعت في الحب"، يؤكد أن "الدونجوانية صفة لا تنطبق عليّ أبداً". ويعترف: "حتى في علاقاتي العابرة، لم أمارس التغرير ولا الخديعة... وخسرت كثيراً من النساء بسبب ضعف موهبتي التمثيلية".

"خبز وحشيش وقمر" وهزيمة


أما في السياسة، فيروي أنه منذ نشر قصيدته "خبز وحشيش وقمر" (1954)، واجه المصير المأسوي الذي عانى منه عم والده، رائد المسرح في سوريا أبو خليل قباني: "العمائم نفسها التي طالبت بشنق أبي خليل طالبت بشنقي، والذقون المحشوّة بغبار التاريخ التي طلبت رأسه طلبت رأسي. خبز وحشيش وقمر كانت أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني وبين الخرافة، وبين التاريخين".

ومما جاء فيها: "نعيش لنستجدي السماء/ ما الذي عند السماء؟/ لكسالى ضعفاء/ يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمر/ ويهزون قبور الأولياء/ علها ترزقهم رزاً وأطفالاً/ قبور الأولياء/ ويمدون السجاجيد الأنيقات الطرر/ يتسلون بأفيونٍ نسميه قدر/ وقضاء/ في بلادي/ في بلاد البسطاء".

وبعد الهزيمة العربية في مواجهة إسرائيل في حزيران 1967، أضاف إلى حبيبته المرأة "ضرّة جديدة اسمها الوطن"، وبات يكتب بالسكين، كما قال في قصيدة "هوامش على دفتر النكسة"، التي هاجم فيها الحكام العرب وفي مقدّمهم المصري جمال عبد الناصر. وجاء فيها:

"إذا خسرنا الحرب لا غرابه/ لأننا ندخلها/ بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابه/ بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه/ لأننا ندخلها/ بمنطق الطبلة والربابة".

وقد جرّ عليه ذلك، إضافة إلى غضب مؤيدي عبد الناصر في العالم العربي، منعاً لإذاعة أغانية وتوزيع كتبه في القاهرة. إلا أنه عاد وتصالح مع الزعيم الذي كتب فيه قصائد إيجابية.

صرخ في وجه المستبدين

في السياسة، عبّر نزار قباني على طريقته عن ضيق مساحات الحرية في البلدان العربية، وعن وجع الناس وإحباطهم وعدم ثقتهم بالحكّام والأنظمة الاستبدادية والفاسدة. بل صرخ في وجه العسكريين والانقلابيين بقصائد ناقمة وساخرة. ووصفهم بالمقاولين المتاجرين بالشعوب والقضايا، ومنها الفلسطينية التي ناصرها نزار وأنشد قصائد عدة في حركة تحررها الوطني. وأبرز أعماله «أصبح عندي الآن بندقية» التي غنّتها أم كلثوم ولحّنها محمد عبد الوهاب (1969). ومع انطلاقة الانتفاضة الأولى في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، في 1987، ألف ديوان «ثلاثية أطفال الحجارة».

وفيما أطلق لسانه ضد الطغاة وغضبوا منه، لم يزر المدينة الأحب إلى قلبه، دمشق. وحين غادر بيروت بعد مقتل زوجته سافر إلى القاهرة، ومنها إلى سويسرا حيث بقي حتى 1990، وبعدها استقر مع أبنائه في لندن. وتروي ابنته هدباء أنه لم يعد إلى بلده خوفاً على حرّيته في الكتابة. وفي أيّامه الأخيرة، سمّت دمشق التي أوصى أن يُدفن فيها شارعاً باسمه، فقال: «دمشق أهدتني شارعاً»، لكن قدميه لم تطأه.

وعلى رغم أنه كتب كثيراً عن بيروت، إلا أنه ألّف إبان الحرب مجموعة من أقسى القصائد الناقدة للقبلية والعنف. وحملت عنوان «إلى بيروت الأنثى مع حبّي» (1981). وغنّت ماجدة الرومي منها «ست الدنيا يا بيروت» (ألحان جمال سلامة)، وقصائد أخرى.

وفيما كان يقول: «أنا ممنوع في كل مكان... إذن، فأنا مقروء في كل مكان»، غنّى من دواوينه التي تجاوزت الخمسين كل من: خالد الشيخ، طلال مداح، محمد عبده، عفاف راضي، أصالة نصري، لطيفة التونسية، صابر الرباعي، إلهام المدفعي، هاني شاكر، ماجد المهندس، غادة رجب، عاصي الحلاني، نانسي عجرم، ريهام عبد الحكيم، طلال سلامة، وكاظم الساهر وآخرون.


الديمقراطية الشعرية

حتّى استخدام نزار قباني تلك اللغة البسيطة والمبنية على قاعدة معرفية وثقافية في آن، لم يبدو شأناً شعرياً فحسب، بل بدا أمراً سلوكيّاً وأخلاقيّاً. وهو أن يتكلّم بصراحة ومن دون تكلّف أو قيود، حتّى في أمور الحب. فما هو خاص بدا مع نزار قباني عامّاً. وما هو عاطفي شخصي بدا جماعيّاً واجتماعيّاً وثقافياً وسياسياً. وليس ذلك في قصيدة بلقيس التي رثا فيها زوجته، بلقيس الراوي التي قُتلت جرّاء انفجار سفارة العراق في بيروت في 1981 فحسب، بل في شعره عموماً.


كتب قباني الذي ينفي «الانتماء إلى الطبقة المرفهة والسلالات ذات الدم الأزرق»: «منذ البدء، كنت مع الديمقراطية الشعرية. كنت أؤمن أن الشعر هو حركة توحيديّة، لا حركة إنعزالية. وأنه همزة وصل، لا همزة قطع. وأنه فن الاختلاط بالآخرين، لا فن العزلة... إيماني بديمقراطية الشعر، دفعني إلى التفتيش عن لغة تؤمن هي الأخرى بالديمقراطية، وتحب الجلوس في المقاهي الشعبية، وتشرب القرفة واليانسون، وتلعب (الكونكان)، وتركب أوتوبيسات الحكومة، وتنزل في فنادق الدرجة الثالثة، وتشاهد مباريات كرة القدم، ومسرحيّات عادل إمام ودريد لحام، وتقرأ سيرة أبي زيد الهلالي. كنت أؤمن أن الشعر موجود في عيون الناس، وفي أصواتهم، وفي عَرقهم، ودموعهم، وضحكاتهم، وأنّ وظيفتي- كشاعر- هي أن أنقل المشهد الشعبي الكبير».

MISS 3