محمود عثمان

نزار قباني والحداثة الموازية

31 آب 2021

02 : 00

أذكر أني قرأت عام 1998 ملفّاً خاصّاً عن نزار قباني في مجلة الآداب البيروتية بعنوان: نزار قباني والحداثة الشعرية المضادة. ولكنني آثرت استخدام مصطلح آخر وهو الحداثة الموازية. ففي نظري كان هناك نسقان من الحداثة متقابلان ومتنافسان أو متسابقان. حداثة النخبة وحداثة الجمهور. وتنقسم حداثة النخبة بدورها إلى نسقين: نسق الرؤيا ونسق الرؤية. يمثل شعراء مجلة شعر كأدونيس والخال وأنسي الحاج النسق الأول: الرؤيا الذي يركز على التجربة الفردية في بعدها الإنساني وأمّا النسق الثاني: الرؤية فيتمثل بقصيدة الإلتزام أو شعراء الإلتزام كالبياتي في العراق وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل في مصر.

وقد دارت بين نزار قباني وما يُسمى شعراء الحداثة حرب من الإقصاء المتبادل. فاتُّهم نزار باللعب على وتر الغرائز المكبوتة عند الجمهور العربي، وبأنّه شاعر البرجوازية المثخنة بالشهوات، وهو رد باتهام شعراء الحداثة بانعدام الوزن ونسف الجسور التاريخية المميزة بين الشاعر والجمهور.

فهل يصح القول عن حداثة موازية للحداثة عند نزار؟

لا شك في أنّ هاجس التفرد كان يشغل بال نزار فهو يقول: "كنت أرفض أن أكون نسخة بالكاربون لأي شاعر آخر". ولكن نزار المتفرد لغة وأسلوباً، تعرض لهجوم قاسٍ من قبل منظومة فكرية تنتمي إلى الحداثة الشعرية الإليوتية (نسبة إلى إليوت) التي تشتغل على تفكيك الذات الإنسانية في إطار الهموم الحضارية والاجتماعية الكبرى. إنّ تلك المنظومة كانت تعتبر أنّ أهمية نزار تكمن في أنّه كتب في أغراض محرّمة اجتماعياً، في ظل شيوع ما يُسمى "ذهنية التحريم". وهي تتجاهل أنّ الحداثة ليست أحادية البعد والدلالة. فالمسألة كانت تتصل إذاً بهيمنة خطاب إيديولوجي، غربيّ المرجعية، على الخطاب النقدي العربي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. واستطاع نزار أن يتحدى هذا الخطاب ويفنّده في أكثر من مناسبة. علماً أنّ التهمة التي وجهت إلى نزار هي ذاتها التي طالت جبران خليل جبران من قبل، وهي أنّه مقروء من فئة الشباب المراهق فحسب.

كما اعتبر نقاد الحداثة المهيمنة، أنّ بنية الصورة الشعرية النزارية لم تخرج على المفهوم البلاغي القديم الذي يحصر وظيفتها بالإيضاح والإفادة. وهو لا يتميز من القدماء إلا بخرقه ما يُسمى أفق انتظار القارئ، فضلاً عن أنّ لغته المباشرة لم تكن ترقى إلى مستوى اللغة الشعرية المشغولة عند أرباب الحداثة.

وهنا نتساءل: هل يستمد النص الشعري مشروعيته من ذاته، وما ينطوي عليه من تفرد وإبداع، أم من خطاب نقدي يخضع لتوجهات فكرية سياسية واجتماعية معينة؟

أعتقد أنّ هذا ما حاول أن يثبته نزار ويجيب عنه، جاعلاً من الجمهور العربي قاضياً يدين الشاعر أو يحكم بتفوقه وأصالته.

وعليه، فإننا نرى أنّ حداثة نزار تتمتع بخصائص، لا بد من العمل على بلورتها، فهي حداثة شعبية إزاء حداثة نخبوية. ومسؤولية الشاعر عنده هي ترميم العلاقة التاريخية المميزة مع الناس، وليس قطع جسور التواصل معهم، واتهام الجمهور العربي بالتخلف والبلادة.

كما أنّ حداثة نزار تنطلق من لغتها الخاصة، التي وصفها باللغة الثالثة، التي تؤلف نسيجاً من أصالة الفصحى وعفوية المحكية ونضارتها. فهي ليست لغة متعالية أو مجافية، بل تحاكي واقع الناس ووجدانهم. واستخدم نزار لهذا الغرض، معجماً شعرياً خاصاً، يقوم على ضخ دم جديد في المعجم الشعري التقليدي.

ولا ننسى الإشارة في مشروع الحداثة النزارية، إلى جرأته في اقتحام المحظور داخل الوجدان العربي، وإدخال ثيمة الجنس بشكل صريح، مما أثار هذا الكم الهائل من الزوابع النقدية.

وحداثة نزار، لا تقوم على قتل الأب، بل تعتبر امتداداً لحداثة امرئ القيس وأبي نواس والمتنبي وابن أبي ربيعة وسواهم.وامتداداً لشعراء النهضة العربية المبدعين. فهو يعترف في سيرته الذاتية بمرجعياته اللبنانية كأمين نخلة والأخطل الصغير وأبي شبكة وصلاح لبكي وسعيد عقل ويوسف غصوب وميشال طراد والياس خليل زخريا.

إنّ الحداثة النزارية تعتبر امتداداً للتراث العربي، وتفاعلًا مع الحضارة الغربية لا تماهياً معها.

إنّ التباعد القائم، بين الحداثة الشعرية بمفاهيمها ومرجعياتها الغربية، وبين الحداثة النزارية الموازية، يعكس بوجه من الوجوه، المأزق الذي يعيشه الشاعر العربي، الذي يريد أن يكتب شعراً عالياً، ويريد في آن، أن يحافظ على علاقته مع الجمهور. ولردم الهوة، لا بد من إدخال الحداثة في جميع البنى الاجتماعية والسياسية والفكرية والتربوية للمجتمع العربي.


MISS 3