وحدة الهند نادرة وجديدة... لكنها بدأت تتصدّع!

11 : 31

قد تكون الثقافة الهندية قديمة، لكنّ وحدة البلد نادرة وحديثة العهد. تُهدد العدائية المتزايدة تجاه المسلمين بزعزعة أكبر ديموقراطية في العالم!لم تظهر المذبحة الطائفية التي ضربت دلهي طوال ثلاثة أيام في الأسبوع الماضي من العدم. بل إنها اشتقت من حملة متواصلة لسفك الدماء.

بدت العاصمة الهندية محاصرة قبل وقتٍ طويل من رشق الحجرة الأولى أو إحراق المنزل الأول. منذ كانون الأول الماضي، شكّلت دلهي محور انتفاضة وطنية لاسترجاع البلد من سياسات رئيس الحكومة ناريندرا مودي التي تضع الهندوس فوق كل اعتبار. اندلعت الاحتجاجات رداً على قرار الحكومة بتعديل تشريعٍ قائم لمنح جنسية سريعة إلى أقليات دينية من ثلاثة بلدان مجاورة تعتنق الإسلام كدين رسمي (أفغانستان، بنغلادش، باكستان). شكّل إقصاء المسلمين من نطاق ذلك القانون تحدياً دينياً لنيل الجنسية في جمهورية علمانية وفق الدستور، مع أن القانون بحد ذاته لا يُهدد الهنود كمواطنين.

لكنّ العوامل التي أشعلت فتيل المواجهة في ظل مخاوف ومشاعر بغض متراكمة كانت تتعلق بوعود أميت شاه، وزير الداخلية الهندي وأقرب المسؤولين إلى مودي، فقد تعهد بجمع "سجل وطني للمواطنين" يفرض على جميع سكان البلد تقديم أدلة موثّقة عن جنسيتهم. وحدهم المسلمون الذين يشكلون أكبر جماعة دينية هندية خارج هذا القانون سيواجهون احتمال الاعتقال وانعدام الجنسية لأنهم لن يسـتطيعوا تقديــم الأوراق اللازمــة لإدراجهم في "السجل الوطني للمواطنين".

لا أحد يعرف من أطلق الشرارة الأولى، لكن بدأ سفك الدماء في الليلة التي سبقت وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الهند في زيارة رسمية مدتها 36 ساعة. وخلال الأيام الثلاثة اللاحقة، غرقت المناطق النائية من عاصمة الهند في أسوأ أعمال عنف بين المسلمين والهندوس منذ عقود، فاقتحمت العصابات الأحياء المختلطة، وأحرقت البيوت، وخرّبت دور العبادة، ورمت زجاجات المولوتوف نحو المنازل، وذبحت الناس لأنها تنتمي إلى دين خاطئ!

وصل عدد القتلى حتى الآن إلى 48 شخصاً. لكن لم تكن درجة الوحشية متساوية بين الطرفين. تفوق وفيات المسلمين، في مدينة يشكّلون فيها أقلية صغيرة، وفيات الهندوس بمعدل ثلاثة مقابل واحد. برزت استثناءات لافتة، لكن تكشف الصور من هناك أن عملاء الدولة بِزِيّهم العسكري كانوا يحرضون الهندوس على المسلمين علناً. في أحد الأحياء، اختنقت امرأة مسلمة متقدمة في السن حتى الموت بعد إضرام النار في منزلها. وفي حي آخر، حُرِق رجل مسلم وهو حي أمام عائلته. يُستعمَل القتلى الهندوس اليوم (أحدهم طُعِن حتى الموت مئات المرات ورُمِي في المجاري) كجزءٍ من حملة دعائية يطلقها مؤيدو إيديولوجيا رئيس الحكومة في محاولةٍ منهم لتصوير المذبحة كعمل جهادي نفّذه مسلمون محرّضون مع متآمرين علمانيين.

لكنّ ما حصل في دلهي كان تمهيداً لمذبحة شاملة ضد المسلمين. لم يقتصر الأمر على قتل الناس، بل إن الثقة التي بُنِيت على مر عقود بين مختلف الجماعات انهارت بالكامل أيضاً. سيزول الركام حتماً ويُعاد بناء المنازل، لكنّ السكان الذين كانوا يعيشون حتى الفترة الأخيرة جنباً إلى جنب سينظرون إلى بعضهم البعض بعين الشبهة والعدائية طوال أجيال قادمة. برأي الناس العاديين، إنها نتيجة طبيعية للسياسة المثيرة للانقسام التي يطبّقها حكّام الهند الحاليون.

تجنّب مودي شخصياً الخطابات التحريضية منذ وصوله إلى رئاسة الحكومة، لكنّ أعضاء حزبه الذين يتبنّون خطابات سامة كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية فورية يحذون حذو زعيمهم بكل بساطة. في العام 2007، حين كان لا يزال شخصاً غير مرغوب فيه في معظم أنحاء العالم كونه أشرف على قتل حوالى ألف مسلم في العام 2002 بصفته رئيس وزراء ولاية "غوجارات"، حصد مودي تأييد حشدٍ من الناخبين الهندوس الأثرياء عندما سخر من الليبراليين الذين احتجوا على إعدام سجين مسلم خارج نطاق القضاء.وحين كان مودي يخطط لوصوله إلى مقاليد السلطة الوطنية، عمد أهم رجال الأعمال النافذين في الهند إلى تجميل سمعته، فاعتبروه منقذ البلد مقابل منحهم تراخيص سريعة لمشاريعهم. يبدو حكم مودي كرئيس وزراء نسخة مكررة ومُكبّرة من أدائه كرئيس لولاية "غوجارات". بقيت التنمية هناك مجرّد سراب بدل أن تصبح حقيقة ملموسة. ولا وجود لأي مدن ذكية كتلك التي تكلم عنها في خطاباته، ويواجه الرجل الذي أقنع الناخبين الشباب في العام 2014 بقدرته على توفير 10 ملايين وظيفة أسوأ أزمة بطالة منذ 45 سنة. كذلك، تشهد المؤسسات المستقلة، من وسائل الإعلام إلى المحاكم، ضعفاً غير مسبوق. وتسجّل الهند في الوقت الراهن عدداً فائقاً من الشبان العاطلين عن العمل والمستائين لأقصى حد، وتعتمد آلية حكومية بدأت تنهار تحت ثقل الحكم الاستبدادي لرئيس الوزراء، وتشمل سلكاً قضائياً جباناً يرفض كبح سلطته.

ربما لا يزال مودي الزعيم الأكثر شعبية في الهند، لكنه كذلك لأنه أجّج غضب الهندوس وسلّحهم. يكفي أن نراجع أحداث الماضي من وجهة نظر الهندوس الذين اكتسبوا وعياً سياسياً حديث العهد. تعرّضت أرضهم للغزو بشكلٍ متكرر طوال قرون، وتنهار طقوسهم الموروثة بطريقة منهجية دوماً، وتُبتَر منطقتهم الجغرافية المقدسة في نهاية المطاف لاستيعاب مطالب القومية المسلمة المتمثلة بباكستان، وهي دولة يُعتبر فيها الهندوس، مثل جميع الأقليات الأخرى، مواطنين من الدرجة الثانية بموجب القانون ويُجبَرون في معظم الحالات على اعتناق الإسلام بالقوة. لا يمكن تجاهل هذه المعاناة أو الإغفال عنها عبر تسويات موضوعية تنكر تجارب شعبٍ بأكمله وذكرياته التاريخية. التاريخ يستلزم حلاً نهائياً. لكنّ ذلك الحل لا يمكن أن يشتق من معارك الشوارع. لا تستطيع الهند أن تصمد إذا تحوّلت إلى منصة للتعبير عن مشاعر الشفقة الذاتية التي يحملها الهندوس عبر ارتكــــاب الجرائم من وقتٍ لآخر.



تحمّلت الهند طبعاً فصولاً أخرى من سفك الدماء الجماعي على مر تاريخها. في معظم فترات الثمانينات، عمدت الحكومة التي قادها حزب "المؤتمر الوطني الهندي" العلماني ظاهرياً إلى ترهيب الجماعات السيخية في البنجاب. اليوم، تخضع هذه المنطقة لحكومة يرأسها زعيم من الديانة السيخية. تتمتع الهند بموهبة هائلة على التعافي من مِحَنها. يعتبر الكثيرون أن هذه الميزة تعكس قدرة غير محدودة على استيعاب الأهوال، ولكنهم مخطئون. المسلمون لا يشبهون السيخ الذين يشكلون 2% فقط من السكان، إذ يصل عدد المسلمين في الهند إلى 200 مليون.

لطالما ردّ المسلمون على الإهانات والافتراءات المتكررة بِلَفّ العلم الوطني على أجسامهم وتجديد ولائهم للدستور الهندي. لكن تثبت الأحداث الأخيرة أن الهمجية هي مكافأتهم على التخلي عن المصطلحات الدينية والمطالبة بالمساواة والكرامة، كما ينص عليه الدستور. تُصوّرهم الفيديوات المتداولة راهناً على مجموعات الواتساب الهندوسية (أقوى أداة لنشر المعلومات المغلوطة) وكأنهم كائنات غريبة وعدائية. لقد اقتنع عدد كبير من الهندوس بأنهم الضحايا وأن المسلمين هم مرتكبو الأعمال الوحشية في دلهي. اليوم، تعجز شريحة واسعة من الجماعات الهندوسية عن التمييز بين استفزازات باكستان والمطالب الديموقراطية للمسلمين الهنود، علماً أنهم ينحدرون من أشخاص رفضوا باكستان وبقيوا في الهند رغم المخاطر المطروحة عليهم. في غضون ذلك، بدأت العائلات المسلمة تهرب من منازلها في أحياء دلهي الفقيرة والمحروقة وتنتقل إلى أجزاء أخرى من البلد.

تأثّر بعض المراقبين بأعمال العنف المستجدة إلى حد توقّع أن تعيش الهند تاريخ ألمانيا في عهد النازيين. لكن يبدو الوضع أقرب إلى تجربة يوغوسلافيا في أواخر الثمانينات. أدى انهيار الحرس القديم في تلك الفدرالية المتنوعة (كانت إنديرا غاندي، أقوى رئيسة وزراء هندية قبل مودي، تَصِفها دوماً بالبلد الأكثر شَبَهاً بالهند في العالم) إلى ظهور ديماغوجي يسعى إلى إحكام قبضته على البلد عبر استغلال الجرح التاريخي المشتق من الصراع بين مختلف الجماعات العرقية والدينية.

أعلن رئيس يوغوسلافيا سلوبودان ميلوسيفيتش إلغاء استقلال كوسوفو وفويفودينا كبداية لمرحلة عظيمة في مسيرة بلده. لكن دمّرت القومية الصربية يوغوسلافيا. يظن الهنود عموماً أن وحدتهم نعمة إلهية، لكنها خرافة انهزامية. الثقافة الهندية قديمة، لكنّ وحدتها نادرة وجديدة. لقد نجحت القومية الهندية الشاملة التي أنشأها مؤسسو الجمهورية العلمانيون لأنها اعترفت بحقيقة جوهرية مفادها أن البشر مستودع لهويات متعددة. لطالما تميزت الهوية الهندية بسماحها لأي فرد بأن يحمل أكثر من هوية واحدة في الوقت نفسه. لكن يتبنى مودي إيديولوجيا تهدف إلى حصر الناس بهوية واحدة، لذا بدأ يزرع بذور الانقسام في أكثر الاتحادات الديموقراطية تنوعاً في العالم. لا تبدو الخيوط التي تشدّ أواصر الهند متينة بقدر ما يظن الكثيرون، ولن تتمكن من تحمّل أعباء التعصب المفروضة عليها. بدأت الهند تتجه إلى نقطة اللاعودة. من واجب جميع السكان الوطنيين أن ينقذوها سريعاً، بغض النظر عن دينهم.


MISS 3