المطران عودة عن النوّاب: ألا يخجلون من تقاعسهم وتردُّدهم وضياعهم؟

12 : 47



ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الاورثوذوكس المطران الياس عودة خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس.


وبعد قراءة الإنجيل المقدس ألقى عظة سأل فيها النواب: ألا يخجلون من تقاعسهم وتردُّدهم وضياعهم؟ معتبراً أنّ "البلدان الصديقة تَبحَثُ عن حَلٍّ لانتخابِ رئيس، ومجلسُ الـنُـوّابِ مستقيلٌ مِنْ واجِبِهِ. أَليسَ هذا مَسّاً بكَرامةِ المجلِسِ سيّدِ نفسِه؟".



وجاء في عظة قداس الأحد: "المسـيـحُ قامَ مِنْ بَيْنِ الأَمـواتِ ووَطِئَ المَوتَ بِالمَوت، ووَهَـبَ الحيـاةَ لِلَّذيـنَ فـي القُبور.


أحبَّائـي، لـقـد خصَّصَتْ كَنيسَتُنـا المُقَـدَّسَةُ هَـذا الأَحَـدَ لِحادِثَةِ شِفاءِ المُخَلَّـعِ الذي طَرَحَ عـلـيـه المَسيـحُ سُـؤَالًا رُبَّمـا نَستَغرِبُ طَـرْحَهُ علـى شَـخْـصٍ كَسيحٍ مُنذُ ثَمـانٍ وثَـلاثينَ سَنَـة. سَأَلَ الرَّبُّ المُـخَلَّـعَ إِنْ كـانَ يُريـدُ أَنْ يَبْـرَأَ مِنْ مَرَضِه. ومـاذا يُريـدُ الـمَريـضُ غَـيـرَ الشِّـفـاءِ والنُّـهوضِ مِنْ سَريرِهِ؟ لَكِنَّ هَذا السُّؤال يَحْمِلُ بُعْـدًا آخَر، ويَدُلُّ علـى الـحُـرِّيَّةِ الكـامِـلَـةِ الَّتـي يَمْنَـحُـهـا اللهُ لأَحِـبَّائِه. حَتَّـى الـمَـرضى لا يَشفـيهم الرَّبُّ مِنْ دونِ إِرادَتِهِم. هَذا مـا يَحدُثُ أيـضـاً مَـعَ النُّفـوسِ الـمَريضَـةِ بِالـخَـطايا. الرَّبُّ لا يُجْبِرُ أَحَدًا علـى الـتَّوْبَةِ والرُّجوعِ إِلَيْـه، مَـعَ أَنَّـهُ يَشاءُ خَلاصَ الجَميـع.


مَـرَضُ الخَطيـئَةِ لا يُشـفى قَسْرًا، وإِلَّا فَـإِنَّ التَّوبَةَ لا تَكونُ حَقيـقيَّـة. أَهَـمُّ عُـنْصُـرٍ في الشِّفاء، مِنْ أمراضِ النفـسِ كـما الـجَسَد، هُـوَ أَنْ يَـتِمَّ بِإِرادَةِ الشَّخْصِ الـحُـرَّة، لأَنَّ هَذا العُـنْـصُرَ يُسـاعِـدُ في الشِّفاءِ الـعاجِلِ".


واضاف: "جـاءَ الرَّبُّ إلى بِـرْكَةِ «بَيتَ حَسـدا»، أَي «مَكانَ الرَّحـمَة»، وهِيَ تَمْلِـكُ خَمْسَـةَ أَروِقَة. تِلكَ الأَرْوِقَةُ الـخَمْسَةُ تَرْمُزُ إلى النَّاموس، الَّذي يَحْتاجُ تَطبـيقُهُ الـحَقيقيُّ إلى الرَّحمَـة، الأَمْرُ الَّذي عـايَنَّاهُ فـي شَتَّى مَـواضِعِ الكِتـابِ المُقَدَّس، كَـفـي مَثَلِ الـسَّامِـرِيِّ الـشَّفوق، حَـيْثُ كانَ يُفْتَرَضُ بِحَفَـظَةِ الـنَّـاموسِ أَنْ يَـرْحَموا الـرَجُـلَ الَّذي وَقَعَ بَـيْـنَ اللُّصـوص، إِلَّا أَنَّـهُم لَـمْ يَـتَحَلَّوا بِـالرَّحمَـة اللَّازِمَة، فَظَهَروا غَيْرَ أُمَنـاءَ لـوَصيةِ الرَّبّ الـقائِـل: «إِذْهَـبوا وتَعَلَّموا مـا هُـوَ: إِنِّي أُريدُ رَحْمَةً لا ذَبيـحَة».


بِرْكَـةُ «الـرَّحـمَـة» فَضَحَتْ قَسْوَةَ قُلـوبِ البَشَر. إنَّ صورةَ الـجُموعِ الـمـريـضـةِ حـولَ الـبِـركـةِ هـي صـورةُ الـعـالَـمِ الـذي نـحـيـا فـيـه، حـيـثُ يـسـعـى كُـلُّ واحِدٍ وراءَ مـصـالِـحِـه الـخـاصَّـةِ ولا يُـبـالـي بـإخـوتِـه الـبـشـر، بـل قـد يُـحـاوِلُ إيـذاءَهُـم مِـنْ أجـلِ مَـصْـلَـحَـتِـه".


وتابع: "لَقَد اخْتارَتْ الكَنيسَةُ هَـذا النَّصَّ الإِنجـيلِيَّ لِيُقـرَأَ في الزَّمَنِ الفِـصحِـيّ، لأَنَّ البـاحِثينَ ارتَأَوا أَنَّ حـادِثَةَ شِفاءِ المُخَلَّعِ قـد تَـمَّـتْ في عـيدِ الفِـصحِ اليَهودِيّ، إِذْ يَقولُ الإِنجيلِـيُّ يوحَنَّـا: «وبَعْـدَ هَذا كـانَ عِـيـدٌ لِليَهـودِ، فَصَعِـدَ يَسوعُ إلـى أورَشَليم» (يو 5: 1). هُنـا، نَـستَطيعُ أَنْ نُقارِنَ بَيْنَ كَيْفِـيَّةِ تَـصَـرُّفِ البَشَرِ بِلا رَحْـمَةٍ، في عِـيدِ الفِـصْحِ، مَـعَ أَخيهِم المُسـاوِي لَهُم فِي البَشَرِيَّة، وكَيْـفِيَّةِ تَصَـرُّفِ اللَّهِ بِرَحْمَةٍ تـامَّةٍ مَـعَ البَشَـرِ الَّذيـنَ خَلَـقَهُم وعَـصَـوْهُ فَـلَمْ «يُـشْفِـقْ عـلى ابْنِـهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنا أَجْـمَـعـين» (رو 8: 32). والربُّ يسوع هو الرحومُ الذي حَمَلَ أسقامَنا وشفى أمراضَـنا، وتجسَّدَ لِيَفْتَدينا ويُخَلِّصَنا مِنْ عبءِ خطايانا. ألمْ يكنْ عَمَلُهُ الخلاصيّ على الصليبِ عَمَلَ رحمةٍ مجانيةٍ تُجاهَ البشر؟


شِـفـاءُ المُخَـلَّعِ يَحْـمِلُ في طَـيَّاتِهِ نَفْحَةً فِصْحِـيَّةً، الأَمْـرُ الَّذي نَعـيشُهُ في المَعـمودِيَّةِ، حين نُـغَـطَّـسُ فـي جُرنِ الماءِ لِكَيْ نَقومَ مَعَ المَـسيحِ بِحُلَّةٍ جَديدَةٍ، فَنَعْمَلُ طِـيلَةَ حَـياتِنا بِهَدْيِ كَـلِمَةِ الرَّبِّ المَليئَةِ بِالمَحَـبَّةِ والرَّحمَة.


تَحريكُ مِياهِ البِرْكَةِ، بِـحَسَبِ الآباءِ القِـدِّيسين، يُـمَـثِّـلُ المِـيـاهَ الـجارِيَةَ المُتَـحَـرِّكَةَ الَّتـي كانَ الـنَّـاس يَعْـتَـمِدونَ فـيـهـا علـى يَدِ يوحَـنَّا المَعمَدان. كـذلـك مَـنْ يَـسْـقُـطُ في زَلَّـةٍ، وتُـخَـلِّـعُـهُ الـخَـطـيـئَةُ بِـسَـبَـبِ عَـدَمِ حِـفْـظِـهِ لِلـنَّاموسِ وتَطـبيقِـهِ فـي سـلـوكِـه مَـعَ إِخـوَتِهِ الـبَـشَـر، تُقـيمُـهُ الكَـنيسَةُ مِنْ هَـذا الـتَخَلُّـعِ عَـبْرَ التَّوْبَـةِ والإعْـتِراف. هَـذِهِ الأُمورُ تَـسَلَّمَـتْـها الكَنيسَـةُ مِنَ الـرَّبِّ الـرَّحومِ والشَّفوقِ والمُحِبِّ البَشَر، الَّـذي «يَشـاءُ أَنَّ الـكُـلَّ يَخلُـصون وإِلى مَعـرِفَةِ الـحَـقِّ يُقْبِـلـون» (1تي 2: 4)".


مُـخَلَّعُ إِنجيلِ الـيَـوم انْتَظَرَ الرَّبَّ زَمـانًا طَـويلًا ولَم ييأس. إِنَّهُ يُمَـثِّلُ إِسْـرائِـيـلَ الَّـذِي ظَـلَّ تائِهًا في البَـرِّيَّةِ لِثَـمـانٍ وثَلاثِـينَ سَنَةً كـمـا جـاءَ في سِـفْـرِ تثنـيـةِ الإشـتِـراع (تـث 2: 14)، كـمـا يَـرْمُـزُ إلـى كُـلِّ البَشَرِيَّةِ الَّـتـي شَلَّـتْها الـخَطيئَةُ قَـبْلَ مَجِيءِ الـمَسيـح، وقَدْ عَـجِزَ النَّاموسُ والأَنْبِيـاءُ عَنْ إِنْقاذِها، حَتَّـى جاءَها مُخَلِّـصُ العالَم".


وقال عودة: "تَحْـمِلُ كَـلِماتُ المُخَلَّعِ: «لَيْسَ لـي إِنْسـانٌ مـتـى حُـرِّكَ الـمـاءُ يُـلـقـيـنـي في الـبِـركة»، إِدانَـةً لـلبشَرِ بسببِ الأَنانِـيَّةِ والانْحِصارِ فـي الذَّات، وعَـدَمِ الاهْـتِمامِ بـالآخَر. تَحْمِلُ إِدانَـةً لِلقَسْـوَةِ وانْـعِدامِ الـمـحـبّـةِ وعَـدَمِ الرَّحْمَة، إِدانَـةً لِلأَقـوِياءِ الَّذينَ يَـسْحَـقُـونَ الضُّعَـفـاء، إِدانَةً لِـلظُّـلْمِ والمُحاباةِ والتَّمييز (يع 2: 13،1؛ 5: 15)، وإدانَةً لبعضِ الأغنياءِ الذينَ يمتلِكونَ أَكثَرَ مِمّا يحتاجون. إِلَهَهُم الفعلي هو الغنى لذلكَ يُكدِّسون إلى المالِ، كلَّ ما هو غالي الثمن لكنَّهُ عُرْضَةٌ للفساد، إنَّهم أشبَهُ بالعميانِ لأنَّهم لا يَرونَ الفقيرَ والمُحتاجَ والمتألِّم، وقد يكونونَ كَسَبوا مُعظمَ غِناهُم بِظُلْمِ عُمَّالِهم ولم يَسمَعُوا صُراخَهم. لَـقَدْ قالَ المُخلَّعُ هَذِهِ الـكَلِماتِ بِاسْمِ الكَثيرينَ في كُلِّ زَمـانٍ ومَـكان، الَّذينَ يَـفْـتَـقِـدُونَ مَـنْ يُـعيلُـهُم، مِنَ الأَهْـلِ والأَصْـدِقاءِ، في ظُروفِ الضُّعْفِ والمَـرَضِ وتَـقَـدُّمِ السِّنِّ. أَلا يَـتَـكَلَّمُ بِـاسْمِ شَعْـبِنـا الـذي يـتـسـاءلُ: «أين المَسؤولون»؟ لُبْنـانُ الَّذي كـانَ في فَـتَراتٍ طـويـلـةٍ سَـنَـدًا لِلكَثيريـن، يَقْبَعُ، مُـنْـذُ عُـقـودٍ، تَحْـتَ نيرِ الـحُـروبِ الدَّمَـوِيَّةِ والسيـاسـيَّةِ والإقـتِـصادِيَّةِ وغَـيْـرِهِـا مِنْ وَسائِلِ القَهْرِ والذُّلّ، ولَمْ يُـوجَـدْ مَنْ يُساهِـمُ في إِعطاءِ لُبنـانَ وشَـعْـبِهِ جُرْعَةً مِنَ الرَّحمَة، عِـوَضَ الإِمْعانِ في الظُـلْمِ وعـدمِ المـحـبَّـةِ. اليَـوْمَ، لُبْنانُ يَحْـمِلُ أَكْـثَـرَ مِنْ طاقَـتِهِ، فَهُـوَ البَلَدُ المِضْيـافُ الَّـذي تَستَغِـلُّ الأُمَـمُ سِعَـةَ قَـلْبِهِ، وحُـسْنَ ضِيـافَـتِهِ، فَتَجْـعَـلُـهُ يَـحْـتَـمِلُ الأَثْـقالَ والأَتْـعابَ بَدَلًا مِـنْ بَلْسَـمَـةِ جِراحِـهِ، الَّتـي لَمْ يَـكُـنْ آخِـرَها تَـفْجـيـرُ الـعاصِـمَةِ، هَـذا الـجُـرْحُ الَّذي لَمْ يَنْدَمِلْ بـعـد، لأنَّ بَلَدَنا الـحَـبيـبَ أُصيبَ بِجِراحـاتٍ أُخْـرَى أَثْخَـنَـتْ جَـسَـدَهُ المُـرْهَقَ والمُـخَلَّعَ مُـنْـذُ عُقـودٍ. فـقـد استغَلَّ مَـنْ تَوالُوا عـلى الـسُلطـةِ خـيراتِ لُبْنان، وأَهـمَلوا أَهـلَهُ، وتَقاعَـسوا عَـنْ إنمائِـهِ ثـم عَـنْ إنـقـاذِه. لِهَـذا، رَجـاؤُنا أَنْ يُرْحَـمَ لُـبْـنان، أَنْ يتحرَّكَ المسؤولون فيه، والنوابُ بخاصةٍ، مِنْ أجلِ إنقاذِه. ألا يَخجَلون مِنْ تقاعُسِهِم؟ ومِنْ تَرَدُّدِهِم وضَياعِهِم؟ البلدانُ الصديقةُ تَبحَثُ عن حَلٍّ لانتخابِ رئيس، ومجلسُ الـنُـوّابِ مستقيلٌ مِنْ واجِبِهِ. أَليسَ هذا مَسّاً بكَرامةِ المجلِسِ سيّدِ نفسِه؟".


وختم العظة قائلاً: "لَوْ لَمْ يَـكُـنْ اللهُ راحِـمَـنـا، لَمـا كانَ جُـزْءٌ كَبـيـرٌ مِـنَ الـشَّعْـبِ مـا زالَ صامِـدًا ومُـنْـتَظِرًا الخَلاصَ والأَيَّـامَ الـحامِلَةَ فَـرَحَ القِـيـامِ مِنْ تَحْتِ الرُّكـام.


لذلك دَعـوَتُنـا اليَوْمَ أَنْ نَعـودَ إلى رَبِّـنـا بِـمَحْضِ إِرادَتِـنا، وأَلَّا نَـنْـتَظِـرَ أَحَـدًا لِـيُـساعِـدَنا في ذَلِك، بَـلْ أَنْ نَـتَّجِـهَ بِـعَزْمٍ ثـابِـتٍ نحوَ التوبةِ كي نُحَـوِّلَ فِـراشَ خَـطـيـئَـتِـنا مِـنْ فِـراشِ مَرَضٍ، إلـى عَرْشِ تَـوْبَةٍ ورَحْـمَـةٍ ومَـحَـبَّـة، ونـسـمَـعَ: «هـا قـد عوفيتَ فـلا تَـعُدْ تُـخـطئُ بـعـد».


بـارَكَ اللهُ حَـياتَـكُم، وجَـعَـلَـكُم مِـنْ مُـطـيعي كَلِمَـتِهِ، ومِنْ حافِـظي وصـايـاه، ومِنْ مُـطَـبِّـقـيهـا المُحِـبِّـيـنَ والرَّاحِـمينَ لِجَـمـيـعِ البَشَر، آمـيـن". 

MISS 3