سعيد غريّب

من الذاكرة... التسوية هدنة بين حربيْن

9 أيار 2023

02 : 00

كيف يمكن لبلد مستقل أن يعيش ويستمر بالتسويات المفروضة من الخارج؟ وكيف له أن يستمر بعد حروب هي الأخرى، مفروضة من الخارج؟ حروبه تفرض فرضاً، وسلمه يفرض فرضاً، والاتفاقات المخصصة له تولد في عواصم أخرى. هي حكاية لبنان وتاريخ لبنان الحديث خير دليل.

في العام 1959، ترافق وصول سفن الأسطول السادس الاميركي إلى شواطئنا المتوسطية مع تسوية أميركية مصرية جمّدت إلى حين ما سمي بالثورة في لبنان، وتجلّت في لقاء بين الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس فؤاد شهاب، داخل خيمة على الحدود اللبنانية السورية.

في العام 1969، شرعنت تسوية اتفاق القاهرة في أجواء ضاغطة الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، تحت عنوان التنظيم فكان الآتي هو الأعظم.

في العام 1976، أنهت تسوية على مرحلتين في الرياض والقاهرة وليس في بيروت، حرب السنتين، فدخلت قوات الردع العربية ومن ضمنها القوات السورية إلى الأراضي اللبنانية.

في العامين 1983 و1984 تتابع مؤتمران للحوار: الأول في جنيف والثاني في لوزان، وإن اتخذ الحوار صفة اللبننة، الا أنّ بوادر للتسوية قامت بالتنسيق مع الدبلوماسية السعودية ولحظت الدور السوري. في العام 1985، جمعت سوريا أطراف الأرض المتصارعين الثلاثة، وهم «القوات اللبنانية» و»الحزب التقدمي الاشتراكي» وحركة «أمل»، في تسوية لانهاء الحرب في ما عرف بالاتفاق الثلاثي لكنّه لم يمر في بيروت وإن بقي بعض بنوده ثابتاً في اتفاق الطائف.

في العام1989، أنهت تسوية حملت عنوان اتفاق الطائف في السعودية حرباً دامت خمس عشرة سنة في لبنان.

العام 2008 حمل تسوية جديدة لأوضاع لبنان عقدت في العاصمة القطرية في الدوحة وليس في بيروت. وهكذا دواليك حتى اليوم.

وكأن التسويات باتت قدراً ينبع من هذا التداخل العجيب بين الداخل والخارج، وثوابت مزمنة في تسيير شؤوننا ورسم صورة كياننا. انّما المفارقة الأساسية تبقى في أنّ هذه الاتفاقات كلها لطالما كانت تختم على زغل، لتعيدنا بعد حين إلى جوهر الكيان والمصير عند كل استحقاق. من هنا نردد السؤالين الكيانيين المتلازمين: هل لبنان بلد موحّد يجب تقسيمه أم بلد منقسم ويجب العمل على توحيده؟

الواقع يقول إن لبنان يقف اليوم أمام المفترق بين أن يكون أو لا يكون، بين أن يبقى واحداً أو يزول، بين أن يعود موطن الحرية والديموقراطية والانفتاح أو أن يفقد مبرر وجوده، بين أن يصون هويته ومعها دوره ورسالته أو أن يفقد كل هوية ويفقد معها طموحه إلى مكان كريم تحت الشمس.

لقد صنع المسؤولون اللبنانيون بمساعدة الخارج أو بضغط من الخارج أو بقوة الخارج سيلاً من الاتفاقات السياسية كتبت كلها خارج العاصمة اللبنانية، وكانت تنتهي مع كل هبة ريح إلى الفشل أو إلى التعثّر في الحد الأدنى. فلمَ هذا القصور ولمَ العجز عن تمتين أواصر الدولة المستقلة؟

قيل إنّ العلّة في الطائفية السياسية فحاولوا علناً الغاءها، ولكنهم عملوا في السر على استغلالها حتى بلغت حدّ المذهبية وتحولت إلى أداة لتقاسم النفوذ والمحاصصة بعيداً من معايير الكفاءة، فيما اعتبر المسيحيون أو قسم كبير منهم أنّ هذا الالغاء يستهدفهم ويشكل عملياً الغاء لدورهم.

ما العمل؟

لا يبدو الحل في الأفق حتى نكاد نقول إنّ الحل النهائي ليس الّا في معادلات الرياضيات وحدها. وان علينا انتظار تسوية جديدة تختم على زغل! فلبنان كان وسيبقى بلداً غريباً عجيباً، فيه أقصى درجات الحرية وأدنى مستويات الديموقراطية، وشعبه قدّم ويقدّم أقسى التضحيات لكنه لا ينجح في تحقيق أدنى مستويات المحاسبة مقابل أعلى درجات الفساد والفوضى. فلا عجب كيف اخترنا الفراغ أربع مرات في الأعوام 1988، 2007، 2014، و2022!

لعلّ كل شعب يستحق حكامه.


MISS 3