حسان الزين

ردّي على الحروب القبيحة والارتكابات الفظيعة كان في التربية والثقافة والوطنية

بطرس البستاني: أكتب واقفاً تؤلمني قلة الديانة والتمدن

13 أيار 2023

02 : 00

خصصت المدرسة الوطنية في بيروت مبنى لسكن الطلاب
في الذكرى الـ 140 لرحيل بطرس البستاني (1819 - 1883)، أحد رواد الثقافة والتربية في بلاد الشام كما كان يسمي هذا الجزء من الخريطة العربية ننشر بعض سيرته. يصاحب الكتابة بضمير البستاني كثيرٌ من التردّد. أولاً، تردّد لغوي، إذ إن البستاني أحد أبرز الناهضين بالعربية الفصحى في أواسط القرن التاسع عشر، وهو واضع قاموس "محيط المحيط". لكنّه، وهذا ما يشجّع، لم يكن أصوليّاً جامداً، بل كان منفتحاً على عصره وعلومه وأدخل كثيراً من المفردات، منها العَلمَانية، إلى القاموس. فهو انتصر للغة العربية، واندفع لتهذيبها وتطويرها ليس حبّاً بها فحسب، بل لكونها قادرة على التطوّر ومواكبة العصر أيضاً. فالعربية كانت في زمانه منتشرة مختلطة مع لغات أخرى، في العاميّات المحليّة. ما اعتبره، مع آخرين، عائقاً في طريق تقدّم المجتمعات والبلدان العربية. ولهذا اهتمّ بها وعمل عليها من ضمن حراكه لنهضة المجتمع والوطن، ولنهضة المؤسِّسَين لذلك وهما الإنسان والثقافة. وثانياً، تردّد مصدره رفض تحميل البستاني ما لم يقله وما لم يكن عليه. وإذ يمكن تجاوز هذا من خلال "الانضباط" تحت توجّهات البستاني وشخصيّته، لا بدّ من التأكيد أن المسؤول عن أي خطأ أو نقص هو الكاتب وليس "المعلّم".

دعوني أبدأ حكايتي من فتنة 1860 في جبل لبنان ودمشق، التي ينظر إليها كثيرون على اعتبارها أمراً سياسيّاً وعسكريّاً فحسب، فيما هي شأن إنساني وثقافي أيضاً. فأشرُّ ما يوجد تحت قبة الفلك الحروب، وأشر الحروب وأقبحها وأشنعها الحروب الأهلية.

لا أبدأ من 1860 لكون الحرب أثّرت بي على نحو عميق، وكنت حينها في الواحدة والأربعين من العمر (1819 - 1883). ولا أنطلق من هذه المحطة التاريخية لكونها غيّرت كثيراً من الأمور في بلاد الشام، وأفسدت علاقة الإنسان بأخيه في الوطن لمجرّد أنّه من معتنقي مذهب ديني آخر. بل أفعل ذلك لكونها كشفت لي أحوال الإنسان وعرّت قلّة الديانة والتمدّن أو عدمهما.

وكان ذلك مؤلماً. وقد اختبرت حينها آلام مَن يشعر بأبناء وطنه جميعاً، لا بفئة دون أخرى. فالخراب والدمار اللذان حلّا ببلادنا هذه لا يوجد لهما نظير في التواريخ، ما يوجع قلب كل ناظر ومحب للوطن. وهذا الخراب وإن يكن في ظاهر أمره خصوصياً، فهو في الحقيقة عمومي يلحق جميع أبناء الوطن، لأن كل خسارة حصلت فهي خارجة من كيس الوطن وكل نفس فُقدت فخسارتها لاحقة بالجميع.

وكانت آلامي تتضاعف كلّما أحصيت الضحايا والخسائر، وكلّما أمعنت النظر في أسباب تلك المأساة. وبعض الأسباب ظاهر كنت أتقصّاه قبل الحرب التي توقّعتها. أجل، توقعت الحرب، وجال في خاطري قبلها أن أصدر نشرة أنبّه عبرها إلى شر نتائج الحروب الأهلية، ولكنني عدلت عن ذلك لأن رخومة صوت محب للوطن تغطّيها خشونة أصوات طبول الغرض والغايات.

وفيما كنت أتابع الحرب لم يغب من بالي أن أسبابها ليست داخلية فحسب، بل هي مرتبطة بالتطوّر العام في بلاد الشام وعلاقات الدول الأجنبية مع الإمبراطورية العثمانية.

وعلى رغم أهميّة هذه الأسباب والحوادث، الداخليّة والخارجية، شعرت، وتأكدت من ذلك عبر التحليل بعقل بارد، أن هناك أسباباً أعمق اختصرتها بقلة الديانة والتمدّن أو عدمهما. ويتجلّى ذلك في جعل التديّن تعصّباً مذهبيّاً وعدم الفصل بين هذا وذاك. كذلك يتجلّى في الرعونة والخشونة والقبلية التي تناقض التمدّن وتمانع الانتقال إلى حالته.

معركة ثقافية تربوية

لكن، إزاء الفظايع والمنكرات التي ارتكبها أشقياؤنا في ظرف مدّة قصيرة وصلت أخبارها إلى أطراف المسكونة، وجدتني قلقاً على المستقبل كي لا يبقى أسير الماضي والحاضر. لم أدع الحرب تسلب عقلي. وهنا امتحان الإنسان. فسكان البلاد لفيف من قبائل شتّى مختلفة المشارب والأمزجة والأغراض والصوالح، وأكثرهم لا يهمّهم صالحها العمومي وكثيرون منهم لا يشعرون بأنها وطنهم. وسط هذا، يكون الفارق بين مَن يهمّه الصالح العمومي للبلاد ويشعر بأنها وطنه، وبين من يفكّر في مصلحته الخاصّة، الضيّقة، الآنيّة، وينجر لها بأي طريقة كان قائلاً من بعدي الطوفان.

والحقيقة هي أنني فيما كنت أفكّر بمسؤولية تجاه مجتمعي ووطني، نظرت إلى تجارب شعوب تتقدّمنا في التمدن وفهم الديانة. ولا خجل في ذلك، بل أراه واجباً، لا سيما أنني لا أبغي التبعية لتلك الشعوب ودولها، أو البقاء خلفها، ولا تقليدها أيضاً. بل إن هدفي هو الإفادة مما أنجزت وصناعة خياراتنا بذاتنا كما ينبت الزرع في أرضنا.

ورحت أبحث عن العلاج. فالمرض يستوجب دواءً، والغاية تتضمّن الوسيلة. وفيما شخّصت حالنا بقلّة الديانة والتمدن أو عدمهما، استنتجت أن العلاج بديانة وتمدن صحيحين. وتبدّت لي المهمّة ثقافية وتربوية. وأمّا الوسيلة فهي جريدة ومدرسة. وهذه وتلك تبقى حلماً مع شخص مثلي بلا ثروة أو حتّى فائض من دخل محدود. وعلى رغم أهميّة المدرسة، إذ لا يتجاوز عدد المدارس في البلاد خمساً وعشرين، اخترت الشروع بمغامرة إصدار جريدة. فأعباء هذه محدودة وكلفتها أقل من المدرسة، خصوصاً إذا ما كانت من ورقة واحدة وكنت أنا كاتبها ومحررها الوحيد. ثم إن الجريدة، كما المدرسة، من أكبر الوسائط لتمدّن الجمهور إذا ما استُعملت على حقّها.

ربما أكون اخترت الثقافة والتربية انطلاقاً من كوني مدرِّساً ألّفت عدداً من الكتب التعليمية، لكن لم تشب ذاك التفكير غايةٌ في نفسي ولنفسي. ولا أنزّه ذاتي عن مثل هذا، فأنا إنسان، والنفس أمارة. لكنّ أحوالنا هي ما استدعاني إلى ذلك. وأحوالنا صعبة تدعو إلى الأسى، لا سيما إذا ما قارنّاها بما باتت عليه شعوب أخرى وبما كنّا عليه عندما كانت هذه البلاد مرضعة للآداب وسريراً للتمدّن. فاليوم، فيما تنتشر قلة الديانة والتمدّن أو عدمهما، يصعب أن نجد من يقدر على أن يقرأ مكتوباً أو يفك الاسم.

وترسّخت قناعتي حين كنت أرى كثيرين من أبناء وطني يبيعون ما ورثوه من الأجداد، وذاقوا الأمرّين لصونه من غدر الزمان، كي يوفّروا ثمن ركوبهم البواخر نحو البلاد العامرة بحثاً عن الرزق والحياة الكريمة. وهناك، يتعلّمون اللغات ويعاشرون الشعوب المتنوّعة ويتطبّعون مع عاداتها وتقاليدها ويلتزمون القوانين. وخلف هؤلاء الرجال المهاجرين، الذين ربما يستقرون حيث هم، يبقى هنا النساء والأطفال في عتمة الشقاء والزراعة ورعاية أشجار التوت.

هنا، ترددت أصداء خطابي في تعليم النساء من دون استثناء، وقد ألّفته قبل الفتنة وتفاقم الهجرة بنحو ثماني سنوات. والغاية من هذا الخطاب الذي لم تجر فيه أقلام أسلافي من أهل بلادي هي إنهاض همّة النساء إلى العلم لكي يكنّ أهلاً لكرامة أكثر... ومن المعلوم الذي لا يشوبه ريب أنه لا يمكن وجود العلم في عامة الرجال من دون وجوده في النساء، كما أنه لا توجد نساء عالمات في عالم من الرجال جاهل. وذلك لوجود العلاقة الرابطة بين الطرفين وتأثير أحدهما بالآخر. فتعليم النساء هو الدرجة الأولى من السلّم لإصلاح قوم، وهو الباب الذي يجب أن يُفتح أولاً وبدءاً مبتدئين في ذلك من صغرهن. وأما الذين يتركون النساء وراءهم ويأخذون في تعليم الصبيان أو الشبّان فهم كمن يضع رجلاً على الأرض وأخرى في السحاب.

"نفير سورية"

لم أنتظر أن تبرد الأرض الساخنة، ولا أن تأخذ الرياحُ الدخانَ المتصاعد من بقايا الحرائق. ولم أنتظر ممثّلي الدول العظمى والإمبراطورية العثمانية الذين اجتمعوا على عجل، ومعهم أتت الأساطيل إلى شواطئنا، لكن تنازع مصالحهم يستغرق الوقت ويؤخّر الحلَّ. وبدأت أعد العدّة لإطلاق نشرة "نفير سورية". والاسم كفيل بتوضيح القصد. وإن كانت النفير (فارسية) تعني النفر لما دون العشرة من الرجال ينفرون معك ويتنافرون في القتال، فإنني قصدت البوق والنفخ فيه للدعوة إلى قتال من نوع آخر هو البناء والاتحاد. والحالة تستوجب ذلك. وكانت النشرة الأولى في 29 أيلول 1860، والحادية عشرة الأخيرة في 22 نيسان 1861. وقد استهللت كل نشرة بعبارة "يا أبناء الوطن" واختتمت بعبارة "من محب الوطن". وكررت: "حب الوطن من الإيمان".

عرضت في النشرات الأولى الفظايع والمنكرات التي ارتكبها أشقياؤنا، ومعها تحرّكات الدول. وقصدت من ذلك تصوير ضخامة الفتنة ونتائجها. لكنني سريعاً رحت أركّز رسائلي إلى المستقبل، داعياً أبناء الوطن من دون استثناء إلى التفكير في المصلحة الوطنية العامة. وكتبت في العدد الثالث: لا يفيدنا الآن كثيراً النظر إلى الماضي بل يجب توجيه الاهتمام نحو المستقبل، بقصد تخفيف مصايبه وتوقيف مجرى تأثيراتها الردية ومفاعيلها الخبيثة. وإذ توقّفت في الوطنية السابعة عند الخسائر المادية، اعتبرت أن هناك خسائر أدبية، أهمها خسارة الإلفة الموروثة عن الآباء والأجداد، وخسارة ما نسميه بالشيمة أو شرف النفس، وخسارة الصدق والتصديق، وخسارة الراحة العمومية في البلاد قاطبة، وخسارة الأركان بين فيئة وفيئة وبين أفراد فيئة واحدة، وخسارة بعض العرض، وخسارة كثير من الكتب النادرة الوجود والمكاتب النافعة.

وغايتي من عرض تلك الخسائر هي أن أبيّن العبر التي ينبغي أن تعوض عن الخسائر. هكذا يمكن أن نخلص إلى أن للحرب فوائد. والفائدة الأولى هي معرفة أبناء الوطن بطريق محسوس واضح عظم قباحة الحروب الأهلية وشدة رداءتها في ذاتها وفي نتائجها، معرفة من شأنها أن تحدث فيهم تأسفاً عميقاً وندماً صحيحاً على ما مضى وكراهة ونفوراً من ارتكاب ذلك في ما يأتي.

مهّدتُ بذلك للقول إن على الشعب أن يعرف، في ضوء الحوادث التي جرت، أن الحكم هو ملح الأرض، لا بل حياتها، وأن الشرائع هي لجام الأشرار. وأن عدم وجود حكم والاستخفاف بالشرائع هما من أكبر الشرور لبلاد مهما كانت درجة تمدّنها ونجاحها، لأن الحكم والشرائع أشبه بالصحة لا تُعرف قيمتها إلا عند فقدها.

وكنت كتبت في الوطنية السابعة أن مَن يطالع تواريخ الملل والشعوب يظهر له جليّاً ما يلتحق بالناس والأديان نفسها من الأضرار من تعرضها لأمور السياسة ومزجها الأمور الدينية بالأمور المدنية. لكنني لم أجد ذلك كافياً للتعبير عن رأيي في هذا الشأن. فكتبت في الوطنية التاسعة: ما دام قومنا لا يميزون بين الأديان التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه والمدنيات التي هي بين الإنسان وابن وطنه أو بيته وبين حكومته، والتي عليها تُبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسبة السياسية، ولا يضعون حداً فاصلاً بين هذين المبدأين الممتازين طبعاً وديانة، لا يؤمل نجاحهم في أحدهما ولا فيهما جميعاً. وأضفت: ما دام أبناء الوطن لا يفتحون الأبواب لدخول المعارف والصنائع وانتشارها بين خاصتهم وعامتهم، يجب ألا ينتظروا الانتظام في سلك الشعوب المتمدنة.

ونبّهت، في الوطنية التاسعة، أبناء الوطن إلى أمرين: أحدهما هو أن إصلاح أحوالهم وبلادهم متوقف على اتحادهم واجتهادهم الشخصي. لأن اتكالهم في ذلك على الغير هو كإتكال جائع على أنه يشبع إذا أكل صديقه أو مولاه... ثانيهما أن إظهار البغضة إلى جماعة بجملتها، بناء على ذنوب ارتكبها عمداً أو خطأ، بعض أفرادها، فضلاً عن أنه ليس من الإنصاف، هو مضر جداً.




بطرس البستاني: الذين يدّعون بأنه لا يمكن التمدن تحت اللغة العربية ربما لا يعرفون مقدار فضلها



مدرسة وطنية

بعد أقل من ثلاث سنوات من إطلاقي "نفير سورية"، التي تتوجّه إلى القادرين على القراءة والكتابة، وأعدادهم ليست كبيرة، تمكّنت من تأسيس المدرسة الوطنية للبنين في بيروت. وكان طوال الوقت ينتابني إحساس بالتقصير والذنب ناتج من تأخر ولادة توأم الجريدة. وعلى رغم أنني من دعاة تعليم النساء، لم أستطع نظراً لإمكاناتي المتواضعة أن أُنشئ مدرسة لهن. وبقي ذلك حرقة في قلبي. وقد أدركت خلال السنوات الماضية، منذ اقترنت براحيل عطا في 1844، حسنات تعليم النساء. فأم أبنائي السبعة كانت الفتاة الأولى التي التحقت بمدرسة البنات التابعة للإرسالية الأميركية في بيروت. وكان ذلك بعدما تبنّتها سارة سميث، زوجة زميلي عالي سميث. والسيدة سارة رائدة في تعليم النساء في بلاد الشام، وهي أول من أسّس مدرسة في بيروت (Isaac Bird).

سعيت جاهداً كي يكون مبنى المدرسة وفسحاته لائقين مريحين للتلامذة. فوقعت عيني على موقع في محلة زقاق البلاط ذي منظر طبيعي خلّاب.

وقد التزمت في المدرسة بكل ما دعوت إليه في "نفير سورية". وفي مقّدمة ذلك الوطنية القائمة على حب الوطن وأبنائه جميعاً والاهتمام بالصالح العمومي للبلاد والشعور بصدق بأنها الوطن. ومع مبدأ الوطنية مبدأ الحرية الدينية. فالمدرسة تقبل تلامذة من جميع الطوائف والملل والأجناس من دون أن تتعرّض لمذاهبهم الخصوصيّة أو تجبرهم باتباع مذهب غير مذهب والديهم، مع إعطاء الرخصة التامة لهم في إجراء فروض ديانتهم وتعلم عقائد ديانتهم بواسطة معلّمين من مذهبهم داخل المدرسة والتوجّه إلى معابدهم الخصوصية في الأوقات المفروضة مصحوبين بمن يُعتمد عليه من معلّمي المدرسة ذهاباً وإياباً، كما أنها تستخدم معلّمين من مذاهب وأجناس مختلفة ناظرة إلى كفاءاتهم وحسن تقواهم واقتدارهم على التعليم من دون الالتفات إلى معتقداتهم الخصوصية.

إلى هذين المبدأين مارسنا الانفتاح على الحضارات والشعوب الأخرى، من خلال لغاتها وعلومها. فلغات المدرسة الوطنية هي العربية والتركية والفرنسية والإنكليزية واليونانية واللاتينية، وكل لغة غيرها جارية يوجد لها من الطلبة ستة فما فوق، مع صناعة الخط في جميع هذه اللغات. وعلومها هي الصرف والنحو والعروض والمعاني والبيان والبديع والمنطق والجغرافية والتاريخ والحساب والجبر والهندسة والمساحة والطبيعيات والكيمياء والفسيولوجية والجيولوجية والنبات والفقه وفن الترجمة وصناعة الإنشاء والتأليف والخطب وحساب الزنجير. يضاف إليها علم آلات الموسيقى وصناعة التصوير والحفر لدى الطلب. وفيها معلمون من أبناء الوطن وأجانب لهم الاقتدار التام على إيصال تلامذتها إلى أعلى طبقات هذه العلوم وتلك اللغات، وهي تلاحظ في جميع ذلك نفع التلامذة واستعدادهم وطلب الأهالي واحتياجات البلاد.

وعلى رغم حبّي للكتابة التي ما زلت أمارسها واقفاً إلى جانب طاولة مرتفعة، إلا أن حماستي للعمل التربوي لا تقلّ حرارة وشغفاً. وقد وضعت في المدرسة الوطنية خبرتي المهنية كلّها، سواء أكان في إعداد المناهج أم في الإدارة وتنظيمها، وحتّى في التدريس. فأنا، إضافة إلى عملي في مدارس الإرسالية، أعددت مناهج المدرسة الداودية في عبيه، بناءً على تكليف من متصرّف جبل لبنان داود باشا.

"محيط المحيط" و"دائرة المعارف"


ولم أقصر عملي، في تلك الفترة، على متابعة شؤون المدرسة حيث كنت أقيم. فأنا، على رغم ما أبدو عليه من هدوء، قلقٌ في أعماقي. وأتابع أعمالي بدأب وانهمام، ومتى جاءتني فكرة حتى لو كان ذلك في منتصف الليل أنهض لها في الأقل لتدوين ملاحظة بشأنها خوفاً من أن أنساها. ولم أقوَ على إنشغالاتي والوقت إلا بتنظيم أيامي على نحو دقيق وخالٍ من أي ترفٍ أو ملهاة. انهمكت في تلك السنوات بوضع قاموس للمفردات العربية والعلوم المتعلّقة بها.

فاللغة العربية شغفي، وأحمد الله الذي أنطق العرب بأفصح الكلمات وجعل العربية شامة في وجنة اللغات. لكنني لم أصرف ذاك الوقت الطويل (من 1855 حتى 1869) ولم أبدد ذاك الجهد تلبية لرغبة في قلبي. بل فعلت ذلك ليقيني عجز العامة عن الاستفادة من قواميس اللغة الصعبة المراس، ولاعتقادي أن لذلك سلبيات جمّة في التمدن وفهم الديانة. ويقول بِكري سليم إن هذا التأليف هو الخطوة الأولى في سبيل تعميم اللغة. فاللغة للثقافة مثل الأرض للوطن. وأحوالها وأحوال آدابها وعلومها مؤشرات على التمدن. والذين يدّعون بأنه لا يمكن التمدن تحت اللغة العربية، ربما كانوا لا يعرفون مقدار فضل هذه اللغة. وقد فاتهم أن تمدنها أقرب وأسهل وأفعل من تمدن أبناء العرب تحت لغات أجنبية متنوعة.

أما بعد، فقد احتوى هذا المؤلَّفُ على ما في محيط الفيروزأبادي، الذي هو أشهر قاموس، من مفردات اللغة وعلى زيادات كثيرة. فقد أَضفت إلى أصول الأركان فيه فروعاً كثيرة وتفاصيل شتّى وألحقت بذلك اصطلاحات العلوم والفنون وكثيراً من المسائل والقواعد والشوارد وغير ذلك مما لا يتعلق بمتن اللغة. وذكرت كثيراً من كلام المُولَّدين وألفاظ العامة منبّهاً في أماكنها على أنّها خارجة عن أصل اللغة، وذلك لكي يكون هذا الكتاب كاملاً شاملاً يجد فيه كلُّ طالب مَطلوبه من هذا القبيل.

وأَتبعت "محيط المحيط" بمعجم مختصر للطلبة حمل عنوان "قطر المحيط" (1869).

وما إن فرغت من ذلك، حتى بدأت العمل على إنسكلوبيديا باللغة العربية. ولم تكن الغاية من ذلك معرفية فحسب. لم أقصد أن أستجيب لحاجة أبناء اللغة العربية إلى كتب تحتوي على ما جدّ من معارف هذا العصر فحسب، بل إنَّ في الأمر إشارة إلى أن المعرفة شأن جامع فوق التحزّب. ونحن لسنا بحاجة إلى مواكبة العلوم فحسب، إنما بأمسِّ الحاجة إلى التحرر من التحزب وما شابه في التعامل مع العلوم والمعارف التي لا جنسية لها، ولا هي حكر للأعيان الذين كانوا، في أيام اليونان الأقدمين مثلاً، يتعلّمون العلوم السبعة التي تكوّن دائرة التعليم، أي الإنسكلوبيديا.

وقد تطلّبت مني الموسوعة هذه، التي أحببت أن أسميها الكوثر لكنني استقررت على "دائرة المعارف"، تنظيماً دقيقاً للوقت والعمل. فهي تحد كبير، وقد شكك كثيرون وتخوّف آخرون من قدرتي على إنجازها. لكن تنظيم عمل ضخم هو نصف الطريق. وهو ما بدأنا به، فأنجزنا الفهرس ووفّرنا ما أمكن من المراجع العربية والأجنبية. وتمكّنت من إصدار ستة أجزاء مُوِّلت من المبيع والاشتراكات التي كان بعضها سخيّاً، وأبرز ذلك من خديوي مصر إسماعيل الذي لم أخفِ فضله. وهكذا لم أضع كتاباً جمعت فيه المعارف القديمة والجديدة فحسب، بل بنيت سكة يسير عليها من يتابع المهمة. وكان كتاباً، من دون أن أنسى ما سبقه، يشبهني أو أشبهه، إذ فيه الديانات والآداب والعلوم واللغات وكل ما يفيد الإنسان.

أمي مانعت سفري إلى روما وهكذا ترجمنا الكتاب المقدس

مانعت والدتي، وكنت في العشرين من عمري، إرسالي إلى روما للتوسع في العلوم الدينية، وفق رغبة البطريرك الماروني يوسف بطرس حبيش. لقد هالها ابتعادي عنها وهي التي ربّتني مع شقيقيّ وحيدة منذ توفى والدنا وأنا في الخامسة من عمري. هكذا، بقيت قريباً منها في مدرسة عين ورقة. لكن هذه المرّة بوظيفة مدرّس. وكنت وصلت إلى هذه المدرسة بعدما لفتُّ انتباه الخوري ميخائيل البستاني الذي درّسني في ضيعتنا الدبية اللغتين العربية والسريانية. وفي عين ورقة تلقّيت فنون الأدب في لغة العرب من صرف ونحو وبيان وعروض ومنطق وتاريخ وحساب وجغرافية. وأخذت اللغات السريانية واللاتينية والطليانية وحصّلت الفلسفة واللاهوت الأدبي والنظري ومبادئ الحق القانوني.

مكثت في عين ورقة أنفّذ بعض المصالح العامة التي كان يكلّفني بها البطريرك، حتى 1840، سنة مغادرتي إلى بيروت حيث تعلّمت الإنكليزية والعبرانية واليونانية.

تزامن ذلك مع وصول المراكب الحربية الإنكليزية إلى بيروت لمساعدة الدولة العثمانية للقضاء على جيش إبراهيم باشا (ابن والي مصر محمد علي باشا) ونصيره الأمير بشير الشهابي الثاني، فعملت مع عدد من تلاميذ مدارس المرسلين الأميركيين مترجمين للضباط البريطانيين.

وحين عادت الإرسالية الأميركية إلى بيروت، في خريف 1840، استأنفت المدرسة الداخلية للصبيان عملها، فعملت فيها مدرِّساً للغة العربية.

وبعدما كانت الأيام رتيبة، تضمنت روزنامة سنة 1841 أوراقاً مهمة لي. تعرفت إلى الدكتور كرنيليوس فان ديك، الذي عاد من القدس. وتشاركت معه في الإقامة في منزل المرسل الأميركي عالي سميث الذي كان في بلاده. ولي مع سميث قصة بدأت إثر عودته إلى بيروت مشرفاً على أعمال المطبعة التي نقلتها إرساليته من مالطا (أنشأتها في 1822). والجديد كان هو أن المطبعة المتخصصة بالكتاب المقدس والمنشورات الدينية باشرت العمل بحروف عربية لم يعرف العالم بعد أجمل منها، صبت خصيصاً لها في مدينة ليبزغ في ألمانيا. وقد أُضيفت إلى أعمالها طباعة الكتب لمدارس الإرسالية.

فتحت صفحتي الخاصة بترجمة النصوص بنقل مقالات لسميث إلى العربية تحت عنوان "الباب المفتوح في عمل الروح" (1843). ونتيجة للنقاشات العميقة التي بدأتها مع فان ديك وواصلتها مع سميث، اعتنقت المذهب الإنجيلي. وعلى رغم استعدادي للقيام بأعمال التبشير وإلقاء عظة صلاة الأحد، لا سيما مع غياب سميث، إلا أنني قاومت دعوات سميث إلى أن أصبح قسيساً. وقد مارست مهمات دينية، إلى جانب التعليم، في المدرسة التي أوفِدت لتأسيسها في حاصبيا، بعد انضمام عدد من المؤمنين هناك إلى المذهب الإنجيلي.

لكن إقامتي هناك لم تطل وكانت متعبة تخللتها ضغوط من حكام دمشق وبعض رجال الدين الذين أزعجهم نشاطنا وحضور المبشّرين الأميركيين. عدت بعد سبعة أشهر إلى بيروت، وواصلت عملي مدرِّساً وأستاذاً خصوصياً أعلم أفراد الإرسالية اللغة العربية، ومبشراً عند الحاجة، ومساعداً لسميث في المطبعة.

كُلفت بعد ذلك، في 1846، مع فان ديك، بافتتاح مدرسة جديدة للإرسالية في عبيه. وهي مدرسة على الطراز الأميركي إلا أن القراءة والكتابة فيها باللغة العربية. وفي حين انشغلت بوضع كتب عدة بالعربية، خصوصاً في الحساب والأدب، كان تعليم اللغات مخصصاً للطلاب المتفوقين الذين يتم اختيارهم ليصبحوا مترجمين.

وفي تلك الأيام، نشطت لتأسيس كنيسة إنجيلية وطنية. وتحقق لنا ذلك في ربيع 1848. وفي السنة نفسها، انتقلت إلى بيروت مساعداً لسميث في ترجمة الكتاب المقدّس. وخلال عملي هذا أسهمت في تأسيس "الجمعية السورية" الأدبية والعلمية لإذكاء روح الجماعة بين أهل البلاد وتنمية المعرفة من طريق اجتماعات دورية يلقي فيها الأعضاء أبحاثاً.

وقد اختارني سميث نتيجة معرفتي باللاهوت المسيحي الذي درسته في عين ورقة. وكنت أترجم العهد القديم عن الأصل العبري والعهد الجديد عن الأصل اليوناني، ثم أسلّم الترجمة إلى سميث الذي يدقق معي النص ونقارنه مع نسخ الكتاب المقدس المتوافرة لدينا من عربية وعبرانية وسريانية ويونانية. وكنا نحاول توحيد التعابير والإصطلاحات الواردة في الترجمة بعد استشارة القواميس. يلي هذا أن يراجع النصَ الشيخ ناصيف اليازجي، الذي كان يعمل مصححاً في المطبعة. وقد أُختير لهذه المهمة نظراً لإلمامه بالصرف والنحو ولكونه لا يتقن إلا العربية، ما يحول دون تسلل مفردات غريبة. لكن، مع وفاة سميث، في 1857، توقف عملي في الترجمة. وتابع المهمة من حيث أنجزنا فريقٌ برئاسة فان ديك.

تزامناً، شرحت كتاب "بحث المطالب" للمطران جرمانوس فرحات وعلقت حواشيه (1854)، ونشرته تحت عنوان "مصباح الطالب في بحث المطالب". ووقفت على نشر كتاب "أخبار الأعيان في جبل لبنان" لطنوس الشدياق (1859). وفي السنة التالية، ضبطت ديوان أبي الطيب المتنبي وعلقت حواشيه، وحققت قصة أسعد الشدياق. كذلك ترجمت قصة روبنسون كروزو وحمّلتها عنوان "التحفة البستانية في الأسفار الكيروزية".

وأصدرت بعد "نفير سورية" مجلة "الجنان" الشهرية، ثم "الجنينة" الإسبوعية، ثم "الجنة" اليومية".


MISS 3