حين كان الرئيس الأميركي السابق جون ف. كينيدي يحاول مساعدة مصر، في عهد جمال عبد الناصر، لإنقاذ المعابد القديمة من الفيضانات في العام 1961، طرح فكرة مثيرة للاهتمام لإقناع الكونغرس بالموافقة على إنفاق 10 ملايين دولار من أموال دافعي الضرائب الأميركيين: سيدفع الأميركيون المال لإنقاذ جزءٍ من إرثهم الثقافي الخاص.
طلبت مصر حينها مساعدة دولية للحفاظ على آثار المملكة النوبية التي هددتها الفيضانات نتيجة بناء سدّ أسوان العالي. ثم لبّى الأميركيون النداء عبر إطلاق جهود واسعة بقيادة اليونسكو. كانوا منشغلين في تلك الفترة بتسجيل النقاط ضد السوفيات خلال حقبة محتدمة من الحرب الباردة، لكنهم تكلموا في الوقت نفسه عن حقهم بآثار مصر القديمة. حصل ذلك في العام 1961. يحمل هذا النمط من التفكير تاريخاً طويلاً ومستمراً، وهو لا يزال يثير استياء المصريين حتى اليوم.
إحتدم هذا النقاش مجدداً في الشهر الماضي، عند نشر مقاطع ترويجية من مسلسل Queen Cleopatra (الملكة كليوباترا) على شبكة «نتفلكس»، وهو من بطولة الممثلة البريطانية السوداء أديل جيمس بدور الملكة البطلمية الأسطورية. أدى اختيارها إلى إثارة استياء عارم وسط المصريين. كان جزء من ردود الأفعال عنصرياً بامتياز، لكن تشتق انتقادات أخرى من مواقف تاريخية شائكة ومن تقليد غربي قديم اعتاد على الفصل بين المصريين المعاصرين وتراثهم القديم.
في بداية الستينات، تكلم كينيدي عن ارتباط المصريين المعاصرين بالعصور القديمة وكأنهم أقل من أن يكونوا على صلة بحضارة عظيمة. ثم اتضح هذا الموقف العنصري والاستعماري على مر السنوات اللاحقة من خلال الاحتفاظ بالآثار الثقافية المصرية التي استولى عليها الأجانب في حقبة الاستعمار، أو عبر زيادة الهوس بعلم الآثار المصرية والانبهار بحضارة الفراعنة القائمة منذ قرون، وقد بلغت هذه النزعة ذروتها خلال موجات التوسّع الإمبريالي الغربي.
بدأ اهتمام الباحثين يتجدد بإرث كليوباترا الذي كان متعدد الأعراق على الأرجح. لكن تأثرت كتابة التاريخ القديم أيضاً بالانحياز العنصري، وتعرّض الباحثون من دولٍ جرى استعمارها سابقاً للتهميش. لا يُعتبر علم الآثار المصرية استثناءً على هذه القاعدة. كانت القوى التي استعمرت مصر تدعم هذا القطاع في الماضي، ولطالما اتضحت مظاهر العنصرية تجاه المصريين المعاصرين.
هذا الجانب يشكك بمصداقية المشاريع العلمية والأكاديمية التي تشير إلى بشرة كليوباترا البيضاء أو السوداء. بدل التركيز على لون بشرتها، يُفترض أن تتعلق المسألة الأساسية بدور الانتماء العرقي في نشر المعلومات عن كليوباترا وتاريخها. إلى أي حد شارك الأكاديميون المصريون في إنتاج هذا التاريخ وكتابته؟
لا يمكن حل هذه المسائل حين يقرر صانعو أفلام أميركيون ذوو نوايا حسنة تقديم شخصية كليوباترا كامرأة سوداء، من دون إشراك المصريين في هذا القرار أو المشروع ككل. هم تابعوا بهذه الطريقة النهج التقليدي الذي اعتمده كينيدي والمستعمرون البريطانيون والفرنسيون لمصر، ما يعني حرمان المصريين المعاصرين من تاريخهم.
لا تتعلق احتجاجات معظم المصريين على المسلسل أو أبرز أسباب الاستياء العام في مصر بالعنصرية أو بشرة أديل جيمس السوداء، بل بنزعة صانعي العمل إلى التغاضي عن تاريخ العنصرية المعادية للسود في الولايات المتحدة عبر تحريف تاريخ شعبٍ آخر من دون الاهتمام بردة فعله.
في ظل الفشل الذريع الذي يواجهه المسلسل في الوقت الراهن، ذهب بعض المصريين إلى حد تبنّي خطاب شعبوي ودعم أفكار سخيفة ومبالغ فيها عن «الجينات المصرية» التي يُفترض أن تتشكّل منها الهوية المصرية القائمة على الانتماء العرقي. تنمّ هذه المواقف عن عنصرية مقيتة فيما يسعى هذا المعسكر إلى دحض المزاعم القائلة أن الحضارة المصرية القديمة كانت أفريقية في الأساس وأن المصريين القدامى كانوا من أصحاب البشرة السوداء.
هذه المواقف هي جزء من نزعة قومية متطرفة وكارهة للأجانب نشأت بعد إسقاط جماعة «الإخوان المسلمين» في العام 2013، بقيادة رئيس مصر الحالي عبد الفتاح السيسي الذي كان وزير الدفاع المصري في تلك الفترة.
كان معارضو «الإخوان المسلمين» يخشون أن تحاول هذه الجماعة إبعاد البلد عن جذوره القديمة، نظراً إلى خلفيتها الإيديولوجية، وأن تسعى إلى ترسيخ الإرث الإسلامي والعربي كأول مؤشر على الثقافة والذكريات المصرية. شعر عدد كبير من العلمانيين، والمسيحيين الأقباط، وأقليات أخرى، بالقلق من أن تستبعدهم هذه النزعة من ثقافة بلدهم.
نتيجةً لذلك، انتشرت دعوات شعبوية «للتأكيد على هوية مصر الحقيقية» (إنه نموذج بسيط عن المفردات المتداولة في الخطاب المصري العام خلال السنوات الأخيرة). وفق هذا المفهوم، لا تتعلق هوية مصر الأصلية بالعروبة أو الإسلام، بل إنها ترتكز بشكلٍ حصري على التراث المصري القديم.
دعمت الدولة هذا النوع من الدعوات، علماً أن جماعة «الإخوان المسلمين» لا تزال عدوتها الأولى. تبنّى نظام السيسي خطاباً شعبوياً يقوم على سياسة الهوية لتبرير حملة القمع الاستبدادية التي أطلقها ضد معارضيه ومنتقديه، فاعتبر هذه الخطوة ضرورية لحماية الأمّة وهويتها من أعداء الخارج و»غير الوطنيين».
بمناسبة نقل مومياوات ملكية مصرية قديمة من المتحف المصري إلى متحف جديد في القاهرة، شمل حفل مبهر نظّمته الدولة في العام 2021 عرضاً قدّم فيه مغني أوبرا مصري أغنية باللغة المصرية القديمة، برفقة أوركسترا كاملة، وهو حدث نادر في المناسبات الرسمية. لكن تتزامن هذه الخطوة مع زيادة الترويج للحضارة المصرية القديمة باعتبارها أهم عنصر من التراث المصري.
لم يكن الوضع كذلك دوماً. لطالما كانت العنصرية المعادية للسود والمواقف الكارهة للأجانب موجودة في مصر، لكن بدأت النزعة الراهنة بعد العام 2013. في مرحلة معينة، لا سيما في عهد عبد الناصر خلال الخمسينات والستينات، كان قادة حركات «الحقوق المدنية الأفريقية الأميركية» و»القوة السوداء» أصدقاءً لمصر والمصريين.
تمتد هذه الروابط الوثيقة إلى قادة دول أفريقيا والحركة الأفريقية ككل. خلال حقبة إنهاء الاستعمار والصراع الواسع ضد العنصرية في فترة الستينات، بدأ المصريون والأفارقة يعتبرون أنفسهم إخوة وأخوات في نضالهم المشترك ضد الإمبريالية. زار الباحث الأميركي الأسود الشهير، وليام إدوارد بورغاردت دو بوا، مصر لتلبية دعوة عبد الناصر، واستقر ابن زوجته، ديفيد غراهام دو بوا، في القاهرة خلال الستينات. كذلك، استقبل عبد الناصر مالكوم إكس، ومحمد علي، وشخصيات سوداء وأفريقية أخرى. يعني التضامن التاريخي بين المصريين والأميركيين السود والأفارقة لمحاربة العنصرية والإمبريالية أن يميل السود أكثر من غيرهم إلى تفهّم امتعاض المصريين اليوم من مسلسل Queen Cleopatra على «نتفلكس»، فهو إنتاج لم يشارك فيه أصحاب هذا التاريخ، مثلما طوّر خبراء قدامى بعلم الآثار المصرية نسختهم في الماضي، بالتعاون مع قوى استعمارية، من دون إشراك الأطراف المعنية.
لكن يُفترض ألا نغفل عن الانتقادات المشروعة للمسلسل لمجرّد أن فئة من المعترضين على العمل تستعمل مصطلحات عنصرية. لا خطب في زيادة اهتمام المصريين بتاريخ الفراعنة ونَسْب ذلك التاريخ إليهم، حتى لو استعملوا هذا الموقف للتصدي للمطالبات الثقافية الغربية بالحضارة المصرية القديمة. إنها ممارسة راسخة في تاريخ الإمبريالية.
لهذا السبب، عبّرت شخصيات مصرية ذات توجهات ليبرالية عن اعتراضها على تجسيد أديل جيمس لدور كليوباترا، بما في ذلك الكوميدي الساخر باسم يوسف الذي يُعتبر على نطاق واسع النسخة المصرية من جون ستيوارت، ومونيكا حنا، عالِمة الآثار المصرية التي أطلقت حملة تطالب بإعادة الحجر الرشيد من المتحف البريطاني.
كتبت حنا في منشور أحدث ضجة واسعة على فيسبوك: «حين بدأ علم الآثار المصرية يتحول إلى علم بحد ذاته، أغفل الغرب عن مفهوم التراث المصري كي لا نتذكر، نحن المصريين، أنهم سرقوا هذا التراث».
كان لافتاً أن يستعمل مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي هاشتاغ #مصر_للمصريين لانتقاد مسلسل «نتفلكس»، إذ يرتبط هذا الشعار في ذاكرة المصريين بالثورة العرابية من العام 1879، وهي واحدة من أوائل الإنجازات في النضال المصري القومي ضد الإمبريالية وهيمنتها، مع أننا لا نستطيع التأكيد على ربط مبتكري الهاشتاغ أو مستخدميه بين هذا الشعار والثورة العرابية والقضية القومية المعادية للإمبريالية. الأمر المؤكد هو أن غضب المصريين من مسلسل «نتفلكس» ينجم في الوقت الراهن عن استيائهم المستمر من إقدام الغرب على فصل الحضارة المصرية القديمة عن المصريين المعاصرين.
كان يُفترض أن يراعي المسؤولون في شبكة «نتفلكس» وصانعو المسلسل مخاوف المصريين المشروعة ويحترموا مطالبهم بالحفاظ على تراثهم القيّم. كانوا يستطيعون التعلّم من تجربة «ديزني» التي اختارت المصري محمد دياب لقيادة فريق إخراج الفيلم المستوحى من مصر القديمة، Moon Knight (فارس القمر). لم يكن مفاجئاً أن يحصد هذا المسلسل الإشادة لأنه قدّم نسخة صادقة عن الثقافة المصرية المعاصرة ونجح في الجمع بين مصر القديمة والحديثة. حتى أن المسؤولين في «نتفلكس» كانوا يستطيعون التعلّم من فيلمهم Secrets of the Saqqara Tomb (أسرار مقبرة سقارة) الذي قدّم بأسلوب جميل شخصيات جسّدها علماء آثار، وخبراء، وعمال، ورجال ونساء عاديون من مصر، فتعاونوا جميعاً لنبش المقبرة واستكشاف تاريخها. لقد ابتعدوا بذلك عن التقليد القديم والشائع في الثقافة الشعبية الأميركية حيث يتم استبعاد أهم الشخصيات من كل نقاش حول تاريخ مصر القديمة.
تبقى فكرة تصحيح النزعات العنصرية في الأعمال الترفيهية محبّذة. لطالما عُرِفت هوليوود باختيار ممثلين بيض واستعمال المكياج لجعل بشرتهم سوداء، أو انتقاء ممثلين بيض لتجسيد شخصيات تاريخية سوداء أو سمراء. بدل كسر هذه الدوامة، قررت «نتفلكس» في نهاية المطاف استعمال تاريخ شعب ذي توجه عرقي معيّن لتكثيف حملتها الرامية إلى نشر سياسة الدمج والهوية.
كان يُفترض أن تنتهي مظاهر تهميش السود وأقليات أخرى على الشاشة منذ وقتٍ طويل، ويبقى الاعتراف بأدوار الأبطال السود في التاريخ عاملاً ضرورياً وبالغ الأهمية. لكنّ تطبيق هذه المقاربة على حساب شعبٍ غير أبيض وقع ضحية الاستعمار الغربي والإمبريالية، وعدم احترام مطالب هذا الشعب الذي يعتبر تاريخه مُلكاً له، هو نهج مُضلّل قد يعطي نتائج عكسية. ربما أراد صانعو مسلسل Queen Cleopatra أن يضعوا حداً لعقودٍ من العنصرية على الشاشة، لكنهم عادوا ورسّخوا تلك العنصرية نفسها بسبب هذا المشروع.