ساندي الحايك

المتعبّدون رقصاً: المناجاة بالروح لا تكفي

19 آذار 2020

09 : 30

من رقصات سيري لانكا
في الأساس كان التعبّد. وهو في التفسير اللغوي "الانفراد بالعبادة والطاعة". فقبل أن يُدرك البشر الله، عَبَد الإنسان الأول كل ما أخافه على هذه الأرض وشكّل بالنسبة إليه قوة عظمى لا يُمكن تفسيرها، من البرق والرعد إلى الشمس. لكن مع الوقت، ظهرت أشكال أخرى صُنّفت كآلهة. "إنانا" مثلاً آلهة الحب والجنس والحرب في بلاد ما بين النهرين. اعتنى الكهنة بتمثالها ومعبدها بأمانة واهتمام كبيرين وخصصوا لها الكثير من الرقصات لكسب رضاها.



ظهرت بعد "إنانا" ( وهناك فرقة رقص سورية على اسم إنانا) الإلهة "عشتار" لدى الأكاديين و"عشتروت" عند الفينيقيين والكنعانيين و"سوسكا" عند الحوريين الحثيين، و"أفروديت" عند الإغريق و"إيزيس" في مصر و"فينوس" لدى الرومان. لكن كيف كان الأوائل يؤدون طقوس عباداتهم؟ وما علاقة الرقص؟ سؤال يختصره الباحث المصري د. تامر يحيى عزيز قائلاً: "كان التعبّد ولا يزال يُمارس بحركات تعبيرية مقدسة وغير مقدسة باتت تُعرف اليوم بالرقص الديني".

بحث معمق يُعيدنا إلى أصول نشأة الرقص، رغم رفض الباحث د. عزيز إطلاق تسمية "الرقص الديني" على الحركات التعبدية، يؤكد أن درجة التشابه بين ما مارسه القدماء في المعابد وما يقوم به البشر اليوم من حركات في خلال الرقص، تُشير إلى ترابط كثيف بين نشأة الرقص ونشأة الدين. حيث ارتبط التعبير الحركي، أي الرقص، ارتباطاً أساسياً بالدين والعبادات والطقوس المختلفة للتقرب من المعبود، كما كان مرتبطاً بالتواصل الروحي مع الإله، بالإضافة إلى أنه يعد نوعاً من الإبداع الحركي، إذ اعتبره الإنسان على مرّ التاريخ وسيلةً لارتقاء الروح والتقرب من الإله. فضلاً عن أنه يعد تجسيداً لمشاعر الإنسان وانعكاساً لأفكاره. وانطلاقاً من ذلك فإن التعبير عن المشاعر الروحانية أيضاً يمكن أن يتم من خلال الرقص. فمنذ الأزل تحدث الإنسان إلى آلهته بالرقص، وشكرها بالرقص، وتضرع إليها بالرقص، محققاً أسمى شعور روحي متمثل بالصفاء والسلام النفسي. ويعتبر الرقص الفرعوني من أشهر الرقصات الدينية على مرّ التاريخ، وكان يتنوع ما بين رقصات للترفيه ورقصات تقام في الجنازات ورقصات تقام في المعابد ورقصات خاصة بالأعياد والمواسم المختلفة، وكانت النساء تقوم برقصات خاصة بعد الانتهاء من تحنيط الجسد لاسترضاء آلهة العالم الآخر لضمان ميلاد جديد للمتوفى.


الرقص الصوفي مع جلال الدين الرومي


وبحسب د. عزيز إن "الرقص الديني مصطلح دخل على قاموس الممارسات الدينية بعدما تحوّلت الحركات التعبدية إلى فن يُقدم في الأماكن العامة وعلى خشبة المسارح، لكن في الأصل، إن الحركات التعبدية القديمة ليست رقصاً، بل حركات تعبيرية وإيماءات بالجسد تهدف إلى الكشف عن مكنونات الروح والتعبير عن نذر النفس والتضحية في سبيل الإله المعبود"، مشيراً إلى أن "الحركات التعبيرية الجسدية تُقسم إلى جزئيتين: الجزئية الأولى هي حركات أساسية مقدسة، أما الجزئية الثانية فتشمل حركات ثانوية مرتبطة بالحركات الأساسية المقدسة. كأن يقوم الإنسان بإحناء رأسه إلى الأمام بخوف طلباً للعفو أو التضرع. وإن قمّة الاستسلام لدى الإنسان القديم تتمثل بالسجود الكلي على الأرض تعبيراً عن الفناء الكلي والإستعداد لنذر النفس فداءً للإله. هذه الحركة التعبيرية تحوّلت في ما بعد إلى ركن أساسي من أركان الصلاة، كما أنها تُعتبر حركةً من حركات الرقص والأداء الفني الديني لدى الكثــــير من الشعوب".

تُقسّم الأديان بين سماوية (الديانات الثلاث المعروفة: الإسلام والمسيحية واليهودية) وأخرى أرضية كالبوذية والسنسكريتية وغيرها، ولكل منها شكل معين من التعبير الحركي التعبدي. وبحسب د. عزيز فإن "تلك الحركات التعبيرية تأتي في الديانات السماوية على أنها أشكال حركية مكملة، وهي التي تحوّلت إلى رقص ومنها نبعت حركات الرقص الشعبي"، موضحاً أن "الديانات القديمة ليس فيها رقص بالمعنى الحرفي للكلمة، إنما ما نتج عنها تحوّل مع الزمن وبفعل تعزيز مكانة الجسد في التعبير عن مكنونات النفس والروح، في حالات الفرح والحزن، تطوّرت تلك الحركات ودخلت في فصول الرقص. وهو ما يبرر هنا وجود حركات متشابهة بين التعبد في أصول نشأته والتعبير عن الحزن أو الفرح رقصاً".

وفي حديثه إلى صحيفة "نداء الوطن" يؤكد أن "هناك أشكالاً حركية اعتقد البعض أنها مرتبطة بالتعبد إلا أن ذلك غير صحيح، بل هي مرتبطة بالسحر والشعوذة، مثل الأشكال المكملة للصلاة والتي تأتي على شكل صلاة الأذكار، أي الذكر. مثلاً يقوم بعض المشعوذين بذكر الملائكة وصولاً إلى الإله نفسه"، لافتاً الانتباه إلى أنه "في حركات السحر تزداد السرعة في الأشكال الحركية المقدسة والمكملة. ففي العادة، ومن راقب يُمكنه إدراك ذلك، إن كل الأشكال الحركية تكون فيها الخطوة بطيئة زمنياً لأننا نخاف من الشيء الخفي ونحترمه. وللدلالة يمكن التركيز على الصلاة بحد ذاتها، ففي كل الديانات يكون فعل الصلاة بطيئاً وورعاً، أي تكون الحركات المرتبطة بالصلاة بطيئة يُكللها الخشوع تزامناً مع الخطوات الزمنية. أما السحر فكل شيء فيه يتم سريعاً وبتمتمة غير مفهومة".


الرقص الفرعوني الديني القديم


يُميّز د. عزيز بين التعبير الحركي الديني والتعبير الحركي الجمالي ولا سيما في النمط الصوفي وتحديداً المولوية، التي ظهرت في القرن الثالث عشر مع مولانا جلال الدين الرومي، أحد أشهر المتصوفين، وهو الذي قال يوماً: "أرقص وإن لم تزل جراحك مفتوحة.. أرقص وأنت حرّ تماماً". ويقول د. عزيز: "اشتهرت المولوية بالدلع الحركي، وهو ما أدى إلى تحريم الحركات التعبدية المولوية في الديانات الأخرى ولا سيما في الإسلام. إذ تعتقد الصوفية بأن الله خلق الروح وأدخلها في البشر، فالروح له والجسد للتراب لكن الروح هي الأعلى درجة. وعليه فإن الاعتقاد السائد لديهم أن البشر يكلمون الله ويقرأون في الكتب السماوية، وهذا كلام الروح. إلا أنه لا يكفي، فيجب أن يترافق مع كلام الجسد لكي يعود الإنسان بكليته إلى الله، فابتدعوا الحركات التي تجسد الصلاة والاستسلام إلى الله العلي، وهي نفس الحركات التي نطلق عليها نحن خطأ عبارة رقص ديني لكنها ليست رقصاً".


ويؤكد أنه "وفق الصوفية المولوية، إن المتعبّد يتحرك بشكل دائري، أي يرسم دائرة حول نفسه لا بداية لها ولا نهاية، وهي الفكرة نفسها المتمحورة حول الله الموجودة في الأديان كلها، والتي مفادها أن الله هو محور الكون وهو النقطة التي يجب أن لا نحيد عنها والتي لا بداية ولا نهاية لها. نحن نتخيّل أن هذا يعتبر رقصاً ولكنه نوع من أنواع التقرب إلى الله من خلال الحركة، فوفـــق الصوفية وإن حرّكنا ألســنتنا تضرعاً فإن ذلك لا يكفي يجب أن نحرّك أجسادنا. الحركة الجسدية أيضاً يجب أن تذوب في ماهية الله. إلى هنا لا تخرج الحركات من إطارها التعبدي، ولكن عندما يدخل إنسان آخر على الشخص المتعبد طالباً منه مشاهدة ما يقوم به، أي أن يصبح متفرجاً، تخسر الحركات التعبيرية صفتها التعبدية وتصبح فناً قائماً بذاته".

ووفق د. عزيز: "إن الاحتفالات التي تُقام سنوياً في مدينة قونية التركية والتي يشاهد فيها آلاف الناس عروض الدراويش المولوية خاصة الرقصة الدائرية والتي تعني "رحلة الصعود الروحي"، مع الموسيقى وإنشاد أشعار جلال الدين الرومي، يصلح أن نسميها رقصاً لأنها تشترط تفاعلاً جماهيرياً. في حين أن الأداء نفسه لو حصل في صومعة لمناجاة الخالق، فإنه سيبقى حتماً في إطار الحركات التعبيرية الدينية". ويرتدي المتصوفون المولويون تنانير واسعة، ويقومون بحركة دورانية حول أنفسهم يعتقدون انها جزء من "مناجاة الخالق". ويعتبر راقصو التنورة أن في دورانهم "تجسيداً للفصول الأربعة،" وأن "الصلة بين العبد وخالقه تنشأ عندما يقوم الراقص أو اللفيف، برفع يده اليمنى إلى الأعلى وخفض اليسرى إلى الأسفل متخففاً من كل شيء بقصد الصعود إلى ربه.


دراويش



الرقص الديني حول العالم


من بين المهرجانات الدينية الراقصة حول العالم مهرجان الهندوس حيث يمارس هؤلاء طقوس عبادتهم التي يتخللها الرقص، والتي يعتقدون أنها ستمحي ذنوبهم وتساعدهم في التغلب على الظلم والجهل في الحياة والعالم.

كذلك، لدى معتنقي عقيدة السيخ هناك مهرجان ديني يقومون في خلاله بزيارة "المعبد الذهبى" الذي يقع فى مدينة "إمريتسار" الهندية، حيث يجد الزائرون داخل المعبد النص المقدس المسمى بـ"جورو جرانث صاهيب".

وفي اليابان تنتشر الديانة البوذية، ورغم أن الأخيرة لا تعتبر الرقص أحد الطقوس الدينية المهمة، إلا أن هناك تقليداً اجتماعياً قديماً يحمل عدة طقوس راقصة، منها مهرجان "بون أو أوبون"، والمعروف أيضاً بمهرجان القناديل، الذي يمتد لمدة ثلاثة أيام، وهو تقليد ياباني بوذي لتمجيد أرواح أموات الأسلاف، بدأ فى اليابان منذ 500 عام.


MISS 3