سعيد غريّب

La démocrature

23 أيار 2023

02 : 00

لبنان مأساة ملهاة. تارة تبدو الحالة فيه مأسوية وتارة أخرى «مسخرة». مرة تختصر قضيته الكبرى باسترداد الدولة هيبتها لتعود ملح الأرض، ومرة أخرى تنزل إلى مستوى «مايوه» أو علكة. ولا شيء يعلو على غسيل منشور على سطح كوكبنا المثقل أصلاً بكل ما لا يحتمل... إنّه زمن السقوط. لم يعد لدينا من الوقت ما نضيعه، لقد ضاق الزمن وكل لحظة منه، قياساً إلى ظروفنا، تعادل عمر انسان. أجل إنّها أطول أزمة في التاريخ الحديث للشرق والغرب، ويجب أن نتذكر أنّ الحرب على لبنان وفيه فُرضت على اللبنانيين، فلا هم طلبوها ولا هم سعوا إليها، ولا يزالون يدفعون أثمان تداعياتها ويفقدون مع الوقت كل القيم الانسانية.

من هم الذين يحوّلون أنظار اللبنانيين إلى أمكنة أخرى لإلهائهم، وبوتيرة واحدة، عن الأمور الجوهرية؟

ولا نزال نتحدث، منذ نصف قرن، عن أسبوع حاسم أو أسبوعين حاسمين، وعن أبيض أو أسود، وقانون الانتخابات والصلاحيات والفساد، عن الكهرباء والمياه والانترنت، وسلسلة الرتب والرواتب والتعليم والاستشفاء، والنازحين واللاجئين، والطرقات والنفايات والسير، والكسارات والمرامل والتلوث والمزارعين، ومعاناة الشتاء وجفاف الصيف... واللائحة تطول. وإذا ذهبنا عميقاً في بحث عن كلمة حق للمواجهة، تطغى علينا الشعارات وتتصدر تعابير من نوع «في خدمة الوطن» أو «من أجل الوطن» أو «الوطن فوق كل اعتبار». لكن الواقع أنّه، باسم هذه العبارات، طال واستمر استخدام الوطن أو استعباده لا من أجل الوطن بل من أجل الحكام. ما يريده الشعب هو استقلاله، لأنّ عدم استقلال الشعب يهدد استقلال الأرض. وباستقلاله فقط يلبي نداء الوطن.

وفي ظل أزمتنا المتمادية، في بلد يتمسك منذ عقود بالديموقراطية، لا نرى عجباً اذا سقطت الديموقراطية اللبنانية بالممارسة. فهي في الأساس مزيفة لأنّ فلسفتها مبنية على التوافق. والتوافق هو نقيض الديموقراطية السليمة وفلسفتها، ويدحضها بالممارسة جملة وتفصيلاً. فلسفتهم تقول: تعالوا نتفق على الانتخابات وقانونها، والتعيينات وأشخاصها، والقرارات الفوقية والعشوائية، وتوزيع المغانم وخيراتها، والحصص ومردودها، والناس وعفويتها وخوفها. فلسفتهم تضيف: تعالوا نتفق على كل شيء تطبيقاً للديموقراطية التوافقية. واذا لم نوفق نذهب إلى المصير والمستقبل المجهول! وهنا مكمن الخطورة!

أليس هذا لبنان الذي عرفناه كما عرفه أجدادنا وأجداد أجدادنا بلداً جميلاً لكنه عابق بالطائفية والمذهبية وشحن النفوس والقهر والظلم والترويع والتركيع وعند الحاجة الدماء والأرواح؟ واذا أريد لهذا البلد أن يصبح دولة - الا اذا كانت المطالبة بالدولة تهمة - تعالوا، تقول فلسفتنا نحن المواطنين، إلى «ضرب جنون» لعل فيه ما يشفي الداء المزمن. تعالوا إلى حكم قد يكون عادلاً وقد لا يكون، الا يحق لنا أن نجرب جنوناً من نوع آخر، ما دام جنون التوافق أوصلنا إلى هذا الانحدار القاتل؟ تعالوا إلى حكم نصفه ديموقراطي ونصفه الآخر ديكتاتوري على غرار ما نُسب إلى المستشار الألماني كونراد اديناور في ممارسة الحكم وأطلق على نهجه تسمية La démocrature، ما ترجمه الشيخ بيار الجميل المؤسس إلى «المستبد العادل».

إنّ بلداً سائباً كلبنان قد لا يقوّمه غير ديكتاتور عادل، وهذا الديكتاتور لا داعي للخوف منه، اذ هو يذهب بعدما يكون قد أرسى أسس دولة وضبط الدوائر والمؤسسات مدة كافية من الزمن. أليس هذا ما فعلته أوروبا ولا تزال حتى اليوم، وضمن أجواء الحرية الحالية، تغرف مما بناه الاباطرة والملوك؟

وفي حال انعدام الخيارات وتعطيل الاتفاقات أو التسويات، وهذا ما يقدّر له أن يحصل، يجب البحث جدياً عن السؤال المكرّر الآتي: هل لبنان بلد موحّد يجب تقسيمه؟ أو بلد منقسم يجب العمل على توحيده؟ وكيف؟ ما حصل في صيدا خطير وقد تتحول الملهاة إلى مأساة حتى إنّنا بتنا نحسد المملكة العربية السعودية ودول الخليج.


MISS 3