لم يكد البنك الدولي يحذر من تنامي الاقتصاد النقدي بالدولار في لبنان وخطورته على ازدهار عمليات تبييض الاموال والتهرب الضريبي، حتّى تلته ترجيحات بوضع لبنان على «القائمة الرمادية» للدول الخاضعة لرقابة خاصة بسبب ممارسات غير مرضية لمنع تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وقد قدّر البنك الدولي «الاقتصاد النقدي المدولر»، «بنحو 9,9 مليارات دولار أو 45,7% من إجمالي الناتج المحلي»، مشيراً الى ان الاعتماد المتزايد على المعاملات النقدية يهدد ايضاً، بعكس مسار التقدم الذي حققه لبنان قبل الأزمة نحو تعزيز سلامته المالية، من خلال إنشاء آليات متينة لمكافحة تبييض الأموال في القطاع المصرفي.
جهود دؤوبة
منذ فترة ويجهد مصرف لبنان لاستقطاب نسبة من اموال الاقتصاد النقدي الى النظام المصرفي، أوّلها عبر إنشاء حسابات «الدولار الفريش» في نيسان 2020 وآخرها التعميم 165 الذي يهدف الى فتح حسابات جديدة بالأموال النقدية بالدولار الأميركي والليرة اللبنانية من أجل استخدامها بصورة حصرية لتسوية التحاويل المصرفية الالكترونية الخاصة بالأموال الـfresh، وتسوية مقاصة الشيكات التي يتم تداولها أيضاً بـالأموال النقدية. بالاضافة الى ذلك، بدأ مصرف لبنان منذ حوالى 6 أشهر وبشكل تدريجي، منح رخص لشركات مالية رقمية مركزها في الخارج متخصصة بالمحافظ المالية (E wallet)، في محاولة لاعادة الاموال النقدية التي يتم تداولها في المعاملات التجارية الى النظام المصرفي وتقليص حجم الاقتصاد النقدي قدر المستطاع، على غرار البطاقات التي أطلقتها شركات تحويل الاموال مؤخراً على شكل بطاقات ائتمانية والتي تمكّن حاملها من ايداع الاموال النقدية فيها بالمبلغ الذي يرغب وفقاً لسقوف محددة، بهدف إما اتمام تحويلات الى الخارج او شراء منتجات online في الداخل او الخارج، liste de marriage وغيرها من الخدمات...
خوفاً من «الرمادي»
ووفقاً لمصادر المجلس المركزي في مصرف لبنان، فان تلك المساعي تأتي استباقاً وترقباً لصدور التصنيف الذي ستصدره مجموعة العمل المالي (Financial Action Task Force) (FATF)، الذي يعنى بمراقبة عمليات تبييض الأموال وتمويل الارهاب والذي من المرجح ان يصنف لبنان ضمن «القائمة الرمادية» او تحت المراقبة لفترة معينة. وكشفت المصادر ان الشركات الجديدة المرخص لها والتي بلغ حجمها لغاية الآن حوالى 8 شركات ستقدم الخدمات نفسها التي أطلقتها شركات تحويل الاموال القائمة مثل الـOMT و cash united ولكن باطار أوسع وسقوف مالية أكبر، على ان تنتسب لها المصارف المحلية لاحقا وتتعامل مع تلك الشركات على تقديم الخدمات ذاتها من خلالها، وذلك بهدف تقليص حجم السيولة المالية المتداولة من خارج النظام المصرفي وقوننة جزء من تلك الاموال وإخضاعها لرقابة النظام المصرفي.
إجتماعات وضغوط
وفي اطار الاجتماعات القائمة ترقباً لصدور تصنيف FATF، عقد لقاء بين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ووزير المالية يوسف الخليل من جهة وبين سلامة وجمعية المصارف من جهة اخرى، تمّ خلاله الضغط من قبل الحاكم على المصارف من اجل الموافقة على تطبيق التعميم 165 وفتح المقاصة بالدولار. وقد كشفت مصادر مطّلعة على مجريات اللقاء لـ»نداء الوطن» ان الحاكم حذر المصارف من خطورة ازدهار عمليات تبييض الاموال نتيجة نمو الاقتصاد النقدي وضرورة مواجهة هذا الامر من خلال التعميم 165 وإلا فان تصنيف لبنان ضمن القائمة الرمادية او السوداء ستكون له تداعيات سلبية خطيرة على المصارف.
إصلاح القطاع المصرفي أولاً
ولكن هل ستنجح مساعي المركزي في استقطاب اموال الاقتصاد النقدي الى القطاع المصرفي من جديد؟ في هذا الاطار، شدد الخبير السابق في صندوق النقد الدولي د. منير راشد على ان استقطاب اموال الاقتصاد النقدي لا ينجح سوى عبر تحرير سعر الصرف واستعادة ثقة المواطن من خلال اعادة جدولة الودائع القديمة. شارحاً لـ»نداء الوطن» انه يجب اصلاح القطاع المصرفي بما فيه البنك المركزي واصلاح الدولة، ما يعني تحرير سعر الصرف اوّلاً وإلغاء مصطلح «لولار» من خلال اعادة جدولة كافة الودائع القديمة وعدم التمييز بين ودائع لولار وودائع fresh، وذلك من خلال لجوء المصارف الى اعادة جدولة الودائع القديمة حسب قدرة كلّ مصرف وحجم ودائعه وحاجته للسيولة. وبالتالي ينتقل جزء من تلك الودائع الى حسابات جارية يمكن استعمالها، اي على سبيل المثال، يمكن تحويل 10 في المئة من قيمة الودائع القديمة الى حسابات جارية يمكن استخدامها على فترة 3 اشهر على ان تتم جدولة الجزء المتبقي على آجال أطول كـ6 اشهر او سنة...
ردّ الودائع لأصحابها؟
وأكد ان استقطاب اي اموال جديدة الى القطاع المصرفي لا يمكن ان يحصل قبل استعادة الثقة بالمصارف، وهو الامر الذي يتم من خلال ردّ الودائع المحتجزة، ليس دفعة واحدة، وليس عبر التعميم 158 بل عبر اعادة جدولتها من قبل المصارف وتحديد قيمة تلك الودائع وفقاً للدولار الحقيقي. مشدداً على ان ثقة المودعين تعود عندما يتأكدون ان «دولارهم القديم» اصبح مثل «دولارهم الجديد» ولو ان القديم لن يتمكّنوا من استخدامه دفعة واحدة بل وفقاً لفترات محددة تبعاً عملية اعادة الجدولة. وأشار راشد الى ان اعادة العمل بالشيكات المصرفية والبطاقات الائتمانية لكافة الودائع (بينما فيها القديمة بعد اعادة جدولتها)، سيساهم ايضاً في استقطاب الاموال من جديد الى القطاع المصرفي، موضحاً ان التعامل بالشيكات والبطاقات بالنسبة الى الودائع القديمة يمكن ان يتم فقط عبر الحسابات الجارية المتعلّقة بها.
إنتفاء الحاجة الى احتياطي
كما أوضح راشد ان تحرير سعر الصرف يُغني البنك المركزي عن التدخل في سوق القطع، وبالتالي تزول حاجته لاحتجاز الاحتياطي الالزامي بالدولار الخاص بالمصارف، ويستطيع اعادة هذا الاحتياطي البالغة قيمته 9 مليارات دولار الى المصارف. كما ان تحرير سعر الصرف يحفز المودعين على ابقاء التحويلات التي تصلهم من الخارج، في القطاع المصرفي وليس سحبها على الفور كما هو الحال اليوم، لانه لن يكون هناك فارق في سعر الصرف بين المصارف والسوق السوداء، وبالتالي يمكن للمودع ان يبيع دولاره للمصرف على سعر السوق وليس لدى الصيارفة. بالاضافة الى ذلك، فان تحرير سعر الصرف سيخوّل الدولة من تحقيق التوازن المالي المطلوب.
باقٍ... ويتمدّد
من جهته، اعتبر الخبير المصرفي د. جو سرّوع ان الاقتصاد النقدي هو اقتصاد منظم محميّ وغير منتظم، راسخ وينمو بشكل متواصل، وهو يضمّ ليس فقط عمليات تبييض الاموال بل ايضاً تمويل الارهاب، تجارة المخدرات، التهرّب الضريبي وغيرها. وسيحاول المتعاملون بهذا الاقتصاد الاستفادة من التعميم الـ165 لزيادة نشاطاتهم وتبييض اموالهم غير المشروعة بمعظمها، وبالتالي، وبما ان آليات تطبيق التعميم لم تصدر بعد، فان ذلك قد يشكل تهديداً جديداً لعمل المصارف بهذا الاطار رغم تطبيقها لقواعد الامتثال العالمية لقوانين مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب.
ماذا في التفاصيل؟
وأشار سرّوع الى ان تقرير البنك الدولي الذي يحدد حجم الاقتصاد النقدي بحوالى 10 مليارات دولار، يجب ان يكون ناتجاً عن عملية موثقة ومفصّلة عن نوعية العمليات التي تتم عبر الاقتصاد النقدي وحجمها، وبالتالي عندما تعلم تفاصيله المجموعات المعنيّة بمكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب، اقليمياً وعالمياً، ستتخذ الاجراءات المناسبة بحق النظام المصرفي في لبنان ككلّ، مما سيدفع البنوك المراسلة الى وقف التعامل مع المصارف اللبنانية باعتبار ان المخاطر العالية التي تتحمّلها لدى تعاملها مع المصارف اللبنانية derisking factor، أكبر بكثير من نسبة الارباح التي تجنيها نتيجة عملية المراسلة تلك.
عبث الحلول المجتزأة
في المقابل، رأى سرّوع ان مساعي استقطاب اموال الاقتصاد النقدي المشروعة الى القطاع المصرفي لن تنجح عبر الحلول المجتزأة تلك، والتي وصفها بالـ» quick and dirty solutions لحلّ مشكلة بالغة التعقيد». وسأل: ما الذي سيحفز أحد على ايداع اموال جديدة في مصارف لا تقدم له شيئاً بل تحمّله كلفة رسوم مرتفعة في حين ان المصارف في اوروبا تمنح فوائد تتراوح بين 4,5 و5 في المئة؟ وأشار الى ان معظم الاموال التي تأتي الى لبنان تعود وتخرج منه. وسأل: اين هي مليارات السياحة؟ اين هي اموال المنظمات الدولية؟ اين هي اموال السفارات؟ اين هي اموال اللاجئين؟ هل هي في القطاع المصرفي؟
وختم قائلاً: «سذاجة مطلقة التفكير باعادة ضم الاموال النقدية المتداولة بالاقتصاد الى القطاع المصرفي قبل اجراء عملية اعادة هيكلة النظام المصرفي واستعادة البلاد لسيادتها، وفرض نظم حوكمة جديدة واعادة النظر بتركيبة الدولة الرقابية، معتبراً ان ما يتم اتخاذه من اجراءات لا يعدو كونه فتح قنوات تسيّب جديدة».