هل يقضي فيروس كورونا على العولمة بمفهومها الشائع؟

00 : 00

بدأ فيروس كورونا الجديد يطرح تحدياً جدّياً على العولمة. في ظل انهيار سلاسل الإمدادات الأساسية وتجميع المؤن الطبية في مختلف البلدان والتوجّه إلى الحد من رحلات السفر، تفرض هذه الأزمة إعادة تقييم شاملة للاقتصاد العالمي المترابط. لم تسمح العولمة بتسارع انتشار المرض المُعدي فحسب، بل إنها رسّخت الاعتماد المتبادل بين الشركات والبلدان، ما يجعلها أكثر ضعفاً في وجه الصدمات غير المتوقعة. اليوم، بدأت الشركات والدول على حد سواء تكتشف مدى هشاشتها.

تسود فكرة شائعة عن العولمة مفادها أن هذه الظاهرة أنشأت سوقاً دولياً مزدهراً، ما يسمح للمصنّعين ببناء سلاسل إمدادات مرنة من خلال استبدال الموردين أو العناصر الأساسية في الإنتاج عند الحاجة. تحوّل مفهوم "ثروة الدول" الذي تكلم عنه الخبير الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث إلى "ثروة العالم"، فقد استفادت الشركات من تقسيم العمل حول العالم. كان التخصص كفيلاً بزيادة الفعالية، ما أدى إلى ارتفاع النمو.

لكن أدت العولمة في الوقت نفسه إلى نشوء نظام معقد من الاتكال المتبادل بين مختلف الأطراف، فظهرت وحدة متداخلة من شبكات الإنتاج التي وحّدت الاقتصاد العالمي. في الوقت الراهن، يمكن تصنيع عناصر منتج محدد في عشرات البلدان. حتى أن هذا التوجه نحو التخصص زاد صعوبة إيجاد البدائل أحياناً، لا سيما في إطار المهارات أو المنتجات غير المألوفة. وحين اتخذ الإنتاج منحىً عالمياً، زاد اتكال البلدان على بعضها لأن أي بلد لا يستطيع السيطرة على جميع السلع والعناصر التي يحتاج إليها اقتصاده. هكذا أصبحت الاقتصادات الوطنية جزءاً من شبكة عالمية واسعة من الموردين.

بدأ انتشار مرض "كوفيد-19" المشتق من فيروس كورونا الجديد يكشف مدى هشاشة هذا النظام المبني على العولمة. تستطيع قطاعات اقتصادية محددة أن تستشعر حدة الأزمة جيداً، لا سيما تلك التي تتكل على نماذج عمل متكررة وعمليات إنتاج منتشرة في بلدان متعددة. وقد تقترب قطاعات أخرى من الانهيار إذا منع الوباء مورداً واحداً في بلد واحد من إنتاج عنصر أساسي وشائع الاستعمال. تشعر شركات السيارات في أنحاء أوروبا الغربية مثلاً بالقلق من نقص الأجهزة الإلكترونية الصغيرة لأن شركة تصنيع واحدة، وهي MTA لحلول السيارات المتقدمة، اضطرت لتعليق الإنتاج في أحد مصانعها في إيطاليا. في عصر سابق، كانت شركات التصنيع لتجمع مخزونات من الإمدادات الاحتياطية لحماية نفسها في فترات مماثلة. لكن في عصر العولمة، يلتزم عدد كبير من الشركات بمبدأ الرئيس التنفيذي لشركة "آبل"، تيم كوك، الذي يعتبر المخزون الاحتياطي "كياناً شريراً في جوهره". بدل دفع ثمن القطع التي تحتاج إليها هذه الشركات لتصنيع منتج محدد إلى المستودعات، تفضّل الاتكال على سلاسل الإمدادات "الفورية" التي تصل على الطلب. لكن في ظل انتشار وباء عالمي، قد تصبح الإمدادات الفورية متأخرة. وبسبب المشاكل في سلاسل الإمدادات، تراجع إنتاج أجهزة الكمبيوتر المحمولة عالمياً بنسبة تصل إلى 50% في شهر شباط الماضي، وقد ينخفض إنتاج الهواتف الذكية أيضاً بنسبة 12% خلال الربع القادم من السنة. تتألف هذه المنتجات كلها من عناصر تنتجها شركات تصنيع آسيوية متخصصة.

نقص خطير

بدأ ضعف الإنتاج، على غرار ما يحصل في مجال تصنيع الأجهزة الإلكترونية، يعيق جهود محاربة فيروس كورونا الجديد. وبدأت كمية الإمدادات الطبية الأساسية، منها المواد الكيماوية الكاشفة (عناصر ضرورية من حزم الاختبارات التي تستعملها المختبرات لرصد الحمض النووي الريبي الفيروسي)، تتراجع أو تنفد في بلدان كثيرة. تطغى شركتان على إنتاج المواد الكيماوية الكاشفة الضرورية: الشركة الهولندية Qiagen (اشترتها حديثاً الشركة الأميركية العملاقة Thermo Fisher Scientific) ومختبراتRoche ، مقرها سويسرا. عجزت الشركتان عن مواكبة ارتفاع الطلب الاستثنائي على منتجاتها، وأدى هذا النقص إلى تأخير إنتاج حزم الاختبارات في الولايات المتحدة التي أصبحت مضطرة لانتظار دورها لشراء المواد الكيماوية التي تحتاج إليها.

في ظل انتشار الفيروس الجديد، تتصرف حكومات معيّنة بأسوأ طريقة. حتى قبل بدء انتشار مرض "كوفيد - 19"، كانت الشركات الصينية تنتج نصف الأقنعة الطبية في العالم. كثّفت هذه الشركات حجم الإنتاج خلال الأزمة الراهنة، لكن اشترت الحكومة الصينية جميع كميات الأقنعة في البلد، كما استوردت كميات هائلة من الأقنعة وأجهزة التنفس من الخارج. لا شك في أن الصين تحتاج إلى هذه المعدات، لكن أدت فورة الشراء هذه إلى مشكلة في الإمدادات المتاحة، ما أعاق قدرة البلدان الأخرى على التعامل مع المرض.

لم يكن أداء البلدان الأوروبية أفضل من الصين. منعت روسيا وتركيا تصدير الأقنعة الطبية وأجهزة التنفس. وقامت ألمانيا بالمثل، مع أنها منتسبة إلى الاتحاد الأوروبي الذي يُفترض أن يتّكل على "سوق موحّد" يشهد عمليات تجارية حرة وغير محدودة بين الدول الأعضاء فيه. أما الحكومة الفرنسية، فاكتفت بمصادرة جميع الأقنعة المتاحة. اشتكى المسؤولون في الاتحاد الأوروبي من هذا الوضع لأن تلك الخطوات أضعفت التضامن بين الدول ومنعت الاتحاد من تبنّي مقاربة مشتركة لمحاربة الفيروس الجديد، لكن تجاهل الجميع هذا الموقف.

من المتوقع أن تتصاعد سياسة "إفقار الجار" في ظل تفاقم الأزمة الراهنة، ما يؤدي إلى خنق سلاسل الإمدادات العالمية في مجال المعدات الطبية العاجلة. تبدو المشكلة حادة بالنسبة إلى الولايات المتحدة تحديداً لأنها تأخرت في إطلاق خطة متماسكة للتعامل مع الوباء وتنقصها كميات كبيرة من الإمدادات التي تحتاج إليها. تملك الولايات المتحدة مخزوناً محلياً من الأقنعة، لكنها لم تُجدّده منذ العام 2009 وهو يقتصر على جزء بسيط من الكمية اللازمة. لا عجب في أن يستغل بيتر نافارو، مستشار الرئيس دونالد ترامب في الملف التجاري، هذا الوضع ونواقص أخرى لتهديد الحلفاء وتبرير الانسحاب المتزايد من التجارة العالمية، على اعتبار أن الولايات المتحدة تحتاج إلى "إرجاع قدراتها التصنيعية وسلاسل إمداداتها الخاصة بالأدوية الأساسية إلى داخل البلد". نتيجةً لذلك، يُقال إن ألمانيا تشعر بالقلق من احتمال أن تتخذ إدارة ترامب خطوة عدائية وتشتري جميع كميات لقاح جديد تُطوّره شركة ألمانية لاستعماله في الولايات المتحدة. بدأت برلين تفكّر الآن بتقديم عرض مضاد للاستفادة من اللقاح أو بمنع تلـك الصفقة الأميركية.





قوة الفيروس

استغلت إدارة ترامب هذا الوباء للانسحاب من الاندماج في الاقتصاد العالمي، وتستفيد الصين من هذه الأزمة لإثبات استعدادها لتولي دور القيادة. كانت الصين أول بلد يصيبه فيروس كورونا الجديد، وقد عاشت معاناة كبيرة في الأشهر الثلاثة الأخيرة. لكنها بدأت تتعافى الآن فيما تغرق بقية بلدان العالم في مستنقع المرض. يطرح هذا الوضع مشكلة على شركات التصنيع الصينية، فقد استأنف بعضها العمل الآن لكن لا يزال الطلب ضعيفاً من البلدان الغارقة في الأزمة. مع ذلك، تحصل الصين في هذه الظروف على فرصة قصيرة الأمد للتأثير على سلوك دول أخرى. رغم الأخطاء الأولية التي كلّفتها حياة آلاف الناس، تعلّمت بكين الآن كيفية مكافحة الفيروس الجديد وتملك مخزونات كبرى من المعدات اللازمة. إنها موارد قيّمة وقد استخدمتها بكين بمهارة.

في بداية شهر آذار، دعت إيطاليا الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي إلى مدّها بالمعدات الطبية العاجلة لأن النقص الحاد في الإمدادات أجبر الأطباء على اتخاذ قرارات موجعة وتحديد المرضى الذين يستطيعون إنقاذهم ومن يتركونهم يموتون، فلم يتجاوب أي بلد منها. لكن تجاوبت الصين وعرضت بيع أجهزة التنفس والأقنعة والبذلات الواقية والضمادات. في هذا السياق، يقول الخبيران في الشؤون الصينية راش دوشي وجوليان غيويرتز إن بكين تسعى إلى إظهار نفسها بصورة الدولة الرائدة في المعركة العالمية ضد فيروس كورونا الجديد لإثبات حسن نواياها وتوسيع نفوذها.

إنه وضع غريب بالنسبة إلى إدارة ترامب التي تباطأت في الرد على الفيروس الجديد (وتظن أن منع وصول المسافرين من أوروبا هو أفضل نهج دفاعي لمجابهة المرض الذي بدأ ينتشر بوتيرة متسارعة في البلاد). تعجز الولايات المتحدة عن توفير السلع العامة للعالم، كما تتراجع الموارد التي تستطيع تقديمها إلى دول أخرى. ما يزيد الوضع سوءاً هو أن الولايات المتحدة قد تضطر قريباً لتلقي المساعدات من الصين: عرض الملياردير جاك ما، أحد مؤسسي شركة Alibaba، التبرع بـ500 ألف حزمة للاختبارات ومليون قناع طبي.

معطيات جيوسياسية جديدة للعولمة

فيما يجد صانعو السياسة حول العالم صعوبة في التعامل مع فيروس كورونا الجديد وتداعياته، يجب أن يتقبلوا عدم فعالية الاقتصاد العالمي بقدر ما كانوا يظنون. تدعو العولمة إلى توسيع هامش التخصص في طريقة تقسيم العمل بين البلدان. ينتج هذا النموذج كفاءات استثنائية حتماً، لكنه يترافق أيضاً مع نقاط ضعف هائلة. وتكشف صدمات قوية، على غرار "كوفيد-19"، طبيعة ذلك الضعف. قد يؤدي الاتكال على مزوّدين من مصدر واحد، أو على تخصّص مناطق محددة من العالم بمنتج معيّن، إلى ظهور هشاشة غير متوقعة في فترات الأزمات، ما يعني تفكك سلاسل الإمدادات. خلال الأشهر المقبلة، من المتوقع أن ينكشف المزيد من نقاط الضعف.

قد يؤدي هذا الوضع كله إلى تحوّل جذري في السياسات العالمية. بعدما أصبحت صحة المواطنين وسلامتهم على المحك، قد تقرر البلدان وقف الصادرات أو مصادرة الإمدادات الأساسية، حتى لو تضرر حلفاؤها والدول المجاورة لها من هذه الخطوة. هذا الانسحاب من العولمة قد يجعل السخاء أداة نفوذ أكثر قوة إذا كانت الدول تستطيع تحمّل كلفته. حتى الآن، لم تتصرف الولايات المتحدة كدولة رائدة في المعركة العالمية ضد فيروس كورونا الجديد ويبدو أنها تنازلت عن جزءٍ من هذا الدور للصين. من الواضح أن هذا الوباء بدأ يُبدّل المعطيات الجيوسياسية الكامنة وراء العولمة، لكن تعجز الولايات المتحدة عن التكيّف مع هذا التغيير حتى الآن، فتبدو في حالة سيئة وتفضّل الاختباء لتجنب التداعيات المؤلمة.


MISS 3