محمد عبيد

الرئاسة وحظوظ اللبنانيين!

30 أيار 2023

02 : 00

أليس غريباً أنه في الوقت الذي يتحدث فيه كثيرون عن ضعف موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية نتيجة التعديلات التي أقرتها وثيقة الوفاق الوطني (الطائف)، تتصارع قوى محلية وإقليمية ودولية للإتيان برئيس موالٍ لها أو صديق أو على الأقل ليس معادياً!

لا يمكن مقاربة الإجابة على هذا التساؤل من زاوية واحدة، فالأسباب كثيرة ومتشعبة. ولكن يبدو أنّ أهمها هو أنّ مفاعيل إضعاف موقع رئاسة الجمهورية التي تكرست في مرحلة ثلاثي «الحريرية السياسية» المكونة من تحالف سني- شيعي- درزي، هذه المفاعيل قد سقطت بعد غياب الرئيس رفيق الحريري، كذلك إثر استعادة قوى مسيحية أساسية: «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» وحزب «الكتائب» أدوارها السياسية في موازييك التوازنات الطائفية التي قامت بعد الإنسحاب السوري من لبنان.

والأهم من ذلك كله أنّ «حزب الله» وجد في تفاهمه مع «الحالة العونية» وما وفره له هذا التفاهم من نفوذ في الدولة خلال وجود العماد ميشال عون في سدة الرئاسة، أنه لم يعد بمقدوره الإبتعاد عن موقع رئاسة الجمهورية خصوصاً في ظل الإنقسامات الحادة في مجلس النواب الحالي، والذي أنهى سنوات طويلة من إمساك رئيسه نبيه بري بمفاصله وقراره ومفاتيحه والذي تجلى بوضوح في جلسة إنتخاب بري ونائبه. وكذلك بسبب عدم توفر شخصية سنية قوية مثل الرئيس رفيق الحريري في رئاسة الحكومة يمكن ربط النزاع معها في الملفات الوجودية بالنسبة للحزب، أو حتى توفر شخصية سنية تكون قادرة ولكن لا تريد أن تمنح «الحزب» الغطاء السياسي الرسمي المنشود، بعد جملة العناوين السياسية السيادية و»الإصلاحية» التي فرضها الإنخراط العربي الخليجي وتحديداً السعودي في صياغة مستقبل لبنان وإعادة تكوين مؤسسات الدولة فيه.

الخلاصة أنّ معركة رئاسة الجمهورية بالنسبة لما يسمى «الثنائي الشيعي» ولـ»حزب الله» حصراً هي أم المعارك، وكذلك هي بالنسبة للمسيحيين عموماً وبالأخص منهم قواهم السياسية وفاعلياتهم وشخصياتهم العاملة في الشأن العام. بينما يقف معظم النواب السُنة وقواهم المتحركة دينية كانت أم إجتماعية على منصة إنتظار كلمة السر الخليجية ومعها المصرية، في حين أنّ الدروز الذين حصر السيد وليد جنبلاط تمثيلهم بحزبه وبكتلة وريثه النائب تيمور ينأون بأنفسهم عن حلبة الصراع المستجدة بين قوى شيعية وأخرى مسيحية حول من يمسك بقرار رئاسة الجمهورية.

الصراع الأول من نوعه

هو الصراع الأول من نوعه بين هذين المكونين اللبنانيين، ذلك أنّه حتى سنوات الحرب لم تشهد مثيلاً له. ومن عايش تلك المرحلة يعرف أنّ باعث نهضة الشيعة وملهمهم ومؤسس مقاومتهم الإمام السيد موسى الصدر، دفع أثماناً غالية بسبب مواقفه الوطنية المتميزة والتي بلغت ذروتها مع رفضه في العام 1976 قرار الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية عزل حزب الكتائب، إنطلاقاً من قناعته بأنّ عزل هذا الحزب الذي كان الممثل الأول والأقوى للمسيحيين سيؤدي حكماً إلى عزل المسيحيين كافة، وبالتالي أخذ لبنان إلى التقسيم النهائي بعدما كان يشهد إنقساماً طائفياً وسياسياً حاداً. وقد كرس هذه القناعة في أحد بنود ورقة العمل الشيعية لإصلاح النظام السياسي التي أقرها المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في العام 1977، حيث ورد فيها: «تعي الطائفة الإسلامية الشيعية بعمق وشمول أنها ليست وحدها في الوطن لتفرض ما تشاء... فلبنان للجميع».

الآن يبدو أنّ هذا الصراع أخذ يتحول إلى معضلة مصيرية على المستوى السياسي بالنسبة للطرفين الشيعي والمسيحي، ما يعني أنّ البحث عن مخارج لإنزالهما عن شجرة المواقف التصعيدية غير القابلة للنقاش صار أمراً ضرورياً، ومن دون ذلك لن تتوفر إمكانية إعادتهما إلى الواقع ودفعهما إلى إجراء حوار مباشر أو بالواسطة حول أجندة تقوم على مبدأي بناء الدولة وحفظ المقاومة وما بينهما من مشاريع إنقاذ وإصلاح ومعالجة «للخراب» الذي أحدثته منظومة الفاسدين الذين استحكموا بالسلطة ومفاصلها من العام 1992 وحتى يومنا هذا.

وهذه مهمة ليست سهلة، ولكن حراكاً سنياً - درزياً مع بعض النواب والفاعليات والشخصيات المسيحية والشيعية التي هي خارج إصطفاف الطرفين المتصارعين يمكن أن يكون مدخلاً لإفهام هذين الطرفين أنهما هما أيضاً ليسا وحدهما في الوطن ليفرضا على اللبنانيين ما يشاءان!

وبانتظار مبادرة ما داخلية أو خارجية سنبقى نتأرجح بين محاولات الطرفين استجماع قواهما لخوض معركة النصف زائداً واحداً أو نصاب الثلثين بعد لَيّ أذرع الحلفاء والمحايدين والمنتظرين. غير أنّ أسئلة تتجاوز ذلك كله لم تجد لها جواباً بعد لدى أي من الأطراف الداخلية مجتمعة وهي: إذا كان لبنان قد صار وفق التصنيف المعنوي على الأقل دولة فاشلة، وبالتالي لا إمكانية لنهوضه وإنقاذه من دون رعاية خارجية إصلاحية ومالية وسياسية، فأيّ أجندة يمكن أن تكون مُعَدة له، وهل لبنان أمام إعادة إنتاج لنظامه السياسي بآليات مختلفة من دون المساس بجوهر إتفاق الطائف. وإذا كان الأمر كذلك فما جدوى الدوران في حلقة التحدي والمناورة، وهل يفيد إستنزاف الوقت، وما معنى الإنتظار إذا كان ما كُتِب قد كُتِب!؟

الإختلاف مع «حزب الله»


الإختلاف في مقاربة الوضع الداخلي مع «حزب الله» لم يعد أمراً عابراً، ذلك أنّ تراكم ملفات الإنهيار وتداعياته على حياة اللبنانيين عموماً ومنهم بالطبع الشيعة، يستوجب أن يدفع بالكثيرين ممن ينتمون إلى خيار المقاومة إلى تكثيف حلقات النقاش مع «الحزب» حول الأدوار التي يقوم بها على المستوى الداخلي وفقاً للوقائع الناتجة عن هذه الأدوار...

بالتأكيد لم تبدأ معاناة اللبنانيين الاقتصادية والإجتماعية مع انتفاضة 17 تشرين الأول من العام 2019، بل إنّ هذه الإنتفاضة كشفت الغطاء صدفة أو نتيجة تدبير مخابراتي ما عن الإهتراء الذي كانت تغرق به مؤسسات الدولة، إضافة إلى أنها أماطت اللثام عن وجوه الفاسدين بحيث صارت لهم ألقاب وأسماء علنية وواضحة يعرفها كل لبناني.

وعلى الرغم من تفهم الهواجس التي اعترت الحزب بسبب الخوف من الإطاحة بالهيكلية السياسية التي بناها من خلال رعايته لما سُمي التسوية الرئاسية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، غير أنّ ذلك لا يصح أن يجعلنا نتجاوز محطات تأسيسية للإنتفاضة - المؤامرة كما وصفها الحزب، وأولاها القانون رقم 44 الذي أقره مجلس النواب في العام 2015، هذا القانون الذي مهد لوضع النظام المصرفي والنقدي والمالي اللبناني تحت مجهر وزارة الخزانة الأميركية وأجهزتها المخابراتية.

فمن الذي أوحى بإقرار هذا القانون الذي حاصر المغتربين اللبنانيين وخصوصاً منهم المتمولين الشيعة في أفريقيا، والذي شَكَل أيضاً تهديداً لكل مناصر للحزب في الداخل وفي الخارج من خلال سيف العقوبات التي وثقت وزارة الخزانة مستنداتها بناءً على إنكشاف مصرف لبنان المركزي والمصارف اللبنانية كافة أمامها، هل هم المنتفضون الأبرياء منهم أو أولئك المرتبطون بالمنظمات غير الحكومية، وهل لكل هؤلاء وغيرهم من اللبنانيين أي قدرة فعلية على لعب أدوار مركزية في تسهيل الإطباق الأميركي على الواقع السياسي والإقتصادي والنقدي في لبنان!؟

ألا يستحق المثال وغيره إعادة النظر بالمقدمات التي أوصلت لبنان إلى هذا الإنهيار الكارثي، أم أنه لا بأس من إعادة إنتاج منظومة الفاسدين نفسها وإغراق البلد بمزيد من الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية وحتى الوجودية الناتجة عن إزدياد هجرة اللبنانيين بسبب يأسهم من إمكانية تغيير واقعهم!؟

وهل سيبقى اللبنانيون محاصرين بتقديم الولاء على الكفاءة والنزاهة، ألا يمكن أن تجتمع هذه الصفات في شخص لديه الولاء للوطن ويمتلك الكفاءة والنزاهة! وماذا عن قول الإمام الخميني (قُدِسَ سِره): «إن من يعمل على إفساد المجتمع ولا يرعوي عن ذلك، إنما هو غدة سرطانية يجب فصلها عن المجتمع». فكم من غدة سرطانية فصلنا عن مجتمعنا!؟

(*) سياسي لبناني


MISS 3