عيسى مخلوف

باريس

حيُّنا والكورونا

28 آذار 2020

02 : 00

لا يتخيّل المرء لحظة واحدة أنّ مدينة مثل باريس، تعانق الماضي والحاضر، يمكن أن تتوقّف. عاصمة الثقافة والموضة والنبيذ والعطور هي أيضاً عاصمة التائهين والمشقّات اليوميّة والأمطار والهواء الملوَّث. هذه المدينة التي كلّ ما فيها يتحرّك ويحكي، صمتت فجأةً، وغاب عنها السيّاح. ومن المعروف أنّ فرنسا تستقطب أكبر نسبة من السيّاح في العالم. العام الماضي، فاق عددهم التسعين مليوناً، وكان من المتوقّع أن يبلغ العدد، هذا العام، المئة مليون.

صمتت المدينة، لكنّه الصمت الذي يضجّ. توقّفت المدارس والجامعات، المتاحف والمراكز الثقافية، صالات السينما والمسارح، المقاهي والمتاجر (باستثناء محلاّت بيع الأغذية والصيدليّات)، الحدائق العامّة ومؤخّراً الأسواق المكشوفة، ومعها اختفت المشاهد التي تؤلّف جزءاً من حياة المدينة وفولكلورها اليوميّ.

بانتقال الحياة إلى داخل المنازل، تابع قسم من الموظّفين العمل عبر وسائل التواصل المختلفة. وهناك مبادرات عدّة لاستمرار التعليم عن بُعد، مع توفير مراجع وقنوات للحفاظ على التواصل بين المعلّمين والطلاّب خلال هذه المرحلة. أمّا الحياة الثقافية التي كانت تتميّز بها المدينة، فلقد أطلقت وزارة الثقافة برنامجاً يقضي بإيصال الثقافة إلى المنازل عبر الطُّرُق الرقميّة الحديثة.

وهذا ما فعلته أيضاً بعض المتاحف العالميّة التي وفّرت رؤية كنوزها الفنّية بصورة افتراضيّة. غير أنّ الصورة الطاغية تكمن في مكان آخر، وتترك آثارها العميقة في النفوس. المصابون بالوباء يتزايد عددهم والمستشفيات تختنق. كما يتزايد عدد الضحايا الذين يوارون الثرى من دون وداع، ممّا يضاعف عند الجميع خوف الرحيل والفَقد. في موازاة ذلك كلّه، بدأ هواء المدينة يتبدّل. وها هي النقطة الوحيدة الإيجابيّة في هذه المحنة. ذلك أنّ هواء باريس وضواحيها لم يكن يوماً بهذا النقاء منذ أربعين عاماً، بحسب ما أعلنه مؤخّراً المرصد الذي يدقّق في نوعيّة الهواء.

مع تزايد القرارات المتعلّقة بتطويق الوباء الأعمى الذي يضرب يمنة ويسرة، في كلّ مكان، بات يحقّ لنا أن نتحرّك ضمن مساحة محدّدة تضيق يوماً بعد آخر. من شارع ميكل أنج، أتّجه نحو جادّة فرساي. أرى بضعة أشخاص يقفون متباعدين أمام صيدليّة. لا أحد يلتفت إلى أحد. الخائفون من بعضهم بعضاً يخافون من أنفسهم أيضاً. يتحرّكون بصورة آليّة كما لو أنهم في فيلم سينمائي صامت. أحدهم وضع كمامة تغطّي الفم والأنف. تعاني فرنسا من نقص فادح في عدد الأقنعة غير المتوفّرة تماماً حتى للأطبّاء. ربّما لذلك يردّد المسؤولون يومياً أنّنا لا نحتاج إلى الكمامات التي ينبغي أن ينحصر استعمالها في حالات المرض. لكن، كيف نعرف أننا مرضى والبعض، وإن أُصيب بالوباء، لا تظهر عليه أعراض المرض، والفحوصات الطبّية الواجب إجراؤها تأخّرت هي أيضاً؟

أشيح النظر عن الواقفين الخائفين وأتابع سيري. المتاجر مقفلة والطريق خاوية. أترك الجادّة ورائي وأنزل في اتّجاه النهر. أرى سيّدة تسير بخطوات متمهّلة على الرصيف، برفقة كلب صغير أبيض يشبه "ميلو"، الكلب الذي عرفناه في طفولتنا في مغامرات "تانتان". أحثّ الخطى وأختصر الطريق نحو نهر "السين" الذي أصبح على بُعد خطوات منّي، بينما أتساءل: هل لا يزال النهر يسيل؟ النهر الذي يجري منذ الأزل بدا جامداً لا يتحرّك كأنّه يطالعني في صورة فوتوغرافية وليس في الواقع.

إنّ ما يحدث الآن في هذه البقعة الصغيرة من باريس، إنما يحدث في المدينة كلّها، وفي جميع أرجاء فرنسا، بل في كلّ مكان من العالم الذي يبدو كأنّ عقارب ساعاته توقَّفت. الانتصار للعلم هو الانتصار الأكبر اليوم. إنه الرهان على مخلِّص من طراز لويس باستور يجد اللقاح الشافي ويضع حدّاً للموت والقلق والخوف. يقول الشاعر الألماني هولدرلين: "حيث يتزايد الخطر، تنمو أيضاً إمكانات الإنقاذ".


MISS 3