الكيمياء الكمّية داخل عينيك تحميك من فقدان البصر

02 : 00

يبدو أن جميع الألوان والومضات وإشعاعات الشمس تؤثر على الأنسجة الحساسة تجاه الضوء في الجهة الخلفية من العين البشرية، فتنتج مواد سامة تجازف بتضرر الخلايا المسؤولة عن النظر. لحسن الحظ، تقوم المادة الصبغية المسؤولة عن اسوداد الشعر والبشرة والعيون بتنظيف المساحة، فتتخلص من العناصر الخطيرة قبل تراكمها على شكل كتل مُضرّة. يكشف بحث أجراه علماء من جامعة «توبنغن» في ألمانيا ومن جامعة «يال» أن عملية التنظيف تُعتبر غير مألوفة على مستوى الكيمياء الحيوية، فهي تتوقف على نزعة غريبة في سلوك مشابه للعمليات الكمّية.

في الجهة الخلفية من المساحة الداخلية لمقلة العين، ثمة طبقة من الخلايا المتفاعلة مع الضوء: إنها شبكية العين. تحتوي الألياف في هذه المساحة على مجموعات من الأقراص الغنية بمادة تلتقط فوتونات الضوء ثم تطلق سلسلة تفاعلات تعود وتنتج نبضاً عصبياً يعتبره الدماغ مسؤولاً عن النظر.

عند الإصابة بحالة نادرة مثل مرض ستارغاردت، يكفي أن يختلّ أنزيم واحد في تلك المساحة كي تتجمّع منتجات سامة ويخسر الفرد نظره الواضح في المنطقة البؤرية من الشبكية.

وحتى لو كان الفرد يحمل مجموعة فاعلة من الأنزيمات التي تقوم بعملها بأفضل طريقة، تجازف أي ثغرة في عملية تفكيك السموم بتراكم عنصر آخر اسمه «ليبوفيوسين» على شكل كتل خطيرة.

يمكن التصدي لهذه العملية أيضاً عبر مادة الميلانين الصبغية الداكنة التي تجمع بين حبيبات الليبوفيوسين في شبكية العين لدى كبار السن.

يقول أخصائي الأشعة العلاجية، دوغلاس براش: «بدأنا نستنتج أن الميلانين هو الحل الطبيعي لمجموعة متنوعة من المشاكل البيولوجية».

لكن قد يتلاشى مفعول الميلانين مع التقدم في السن. يتدهور النسيج بسبب تلك الكتل مع مرور الوقت، فينشأ شكل أكثر شيوعاً من اختلال النظر: التنكس البقعي المرتبط بالسن.

سبق وأكدت دراسات سابقة أجراها أعضاء آخرون من فريق البحث نفسه على دور المادة الصبغية في التخلص من الليبوفيوسين، لكن بقيت الآلية الكامنة وراء عملية التفكيك غامضة.

اليوم، يمكن رصد دليل لافت في البحث الجديد الذي يكشف أن الليبوفيوسين يتفكك بعد ضخ كواشف كيماوية تنتج أشكالاً شديدة التفاعل من جذور الأكسجين.

لا تتمتع إلكترونات الميلانين وحدها بالطاقة الكافية لأداء هذا النوع من المهام، إذ تعيقها قوانين فيزياء الكمّ التي تبقيها مستقرة نسبياً.

لكن تبرز ثغرة مثيرة للفضول. تشمل عملية الإثارة الكيماوية نسخة كمّية دقيقة من مواد إضافية تندمج بطريقة ترفع مستويات الإلكترونات بدرجة تفوق ما يمكن منعه في الحالات العادية، ما يسمح بتنشيط الميلانين قليلاً وإنتاج جذور الأكسجين عند الحاجة.

يوضح براش: «هذه التفاعلات الكيماوية الكمّية تنشّط إلكترون الميلانين وتزيد طاقته وتغيّر مسار دورانه، ما يسمح بإطلاق عمليات كيماوية غير مألوفة في المرحلة اللاحقة».

هذه العملية بحد ذاتها ليست مجهولة في علم الأحياء، مع أنها تُعتبر عموماً طريقة لرفع مستوى الإلكترونات بما يكفي كي تنتج الضوء حين تبدأ بالتراجع. بعيداً عن ظاهرة التلألؤ البيولوجي، بدأ العلماء يفهمون للتو دور تلك العملية في مسارات أخرى، بما في ذلك العمليات المرتبطة بالميلانين.

جمع براش وزملاؤه بين المجهر الإلكتروني عالي الدقة، وعلم الوراثة، وعلم الأدوية، لتعقب أصل الميلانين وحبيبات الليبوفيوسين، وأثبتوا دور الميلانين في التخلص من العناصر الخطيرة، لكنهم استنتجوا أيضاً أن الميلانين استعمل حالته الكمّية المُدعّمة لتفكيك الليبوفيوسين.

في الحالة المثلى، يُفترض أن تُستعمل هذه المعلومة للبحث عن أدوية بديلة عن الميلانين لدى كبار السن، ما يسمح بتفكيك الليبوفيوسين قبل أن يُسبّب أي خلل في أنسجة شبكية العين.

يقول المشرف الرئيسي على الدراسة، أولريش شرايرماير، طبيب عيون في جامعة «توبنغن»: «طوال 30 سنة، كنتُ مقتنعاً بأن الميلانوسومات، أي العضيات الموجودة في الخلايا التي تنتج الميلانين، تفكك الليبوفيوسين، لكننا عجزنا عن تحديد الآلية الكامنة وراء هذه العملية. يبدو أن الإثارة الكيماوية هي الحلقة المفقودة، ويُفترض أن تسمح لنا بتجاوز المشكلة التي يطلقها التنكس البقعي حين تتراجع نسبة الميلانين في العين مع التقدم في السن. قد يشكّل الدواء الذي يَنْشَط كيماوياً بطريقة مباشرة إنجازاً للمرضى».

نُشرت نتائــج البحــــــث في مجلة «بناس».


MISS 3