لن ينتهي الوباء من دون تكاتف العالم أجمع!

05 : 30

للمرّة الأولى في التاريخ الحديث، يُركّز العالم المترابط كله على حل مشكلة واحدة. أدى فيروس كورونا الجديد (SARS-CoV-2) إلى تجميد المجتمع الدولي، إذ يحاول القادة والمواطنون في كل مكان التعامل مع تهديد لا تزال أبعاده غير مؤكدة بالكامل. سارع العلماء إلى الكشف عن تفاصيل أساسية عن فيروس كورونا الجديد والمقاربات القادرة على معالجة الوباء الذي يسببه في الأشهر الثلاثة الأخيرة.

في شهر كانون الأول الماضي، نشر فريق من الباحثين الصينيين التسلسل الجيني للفيروس الجديد عبر موقع "المبادرة العالمية لمشاركة جميع بيانات الإنفلونزا". سمحت تلك البيانات للأوساط العلمية الدولية ببدء تطوير اختبارات تشخيصية واستكشاف الخيارات العلاجية. يشمل الموقع الآن التسلسل الجيني للفيروس، بالشكل الذي سجّله مئات المرضى في ست قارات. وبحلول منتصف كانون الثاني الماضي، نشر باحثون في ألمانيا، بالتعاون مع شركاء لهم من بلدان أوروبية أخرى ومن هونغ كونغ، تفاصيل اختبار تشخيصي لرصد فيروس كورونا الجديد. وبناءً على هذه النتائج، وزّعت منظمة الصحة العالمية معدات طبية على المختبرات حول العالم ونشرت البروتوكولات المستخلصة من سبعة بلدان على موقعها الإلكتروني. كما ذكرت انطلاق أكثر من 390 تجربة عيادية على منصة التسجيل الدولية التابعة لها، وبدأت تجربة عيادية عن أول لقاح من إنتاج "معاهد الصحة الوطنية" يوم الإثنين الماضي.

لكن رغم هذا التقدم المبهر، يحتاج العالم إلى بذل جهود إضافية سريعاً. لا يفهم العلماء حتى الآن جوانب كثيرة من فيروس كورونا الجديد، بما في ذلك طريقة نقل الوباء، أو احتمال أن يظهر مجدداً على دفعات، على غرار الإنفلونزا الإسبانية في العام 1918، أو احتمال تغيّره واتخاذه شكلاً مختلفاً، أو مصدره وطريقة تأثير العوامل البيئية، مثل الحرارة، على وتيرة انتشار العدوى. كذلك، تكثر الأسئلة العالقة عن الوباء، منها سبب اختلاف ردود أفعال المرضى واحتمال أن يطوّر المصابون مناعة ضد الفيروس على المدى القصير أو الطويل. يتسابق الباحثون اليوم لتطوير خيارات علاجية واختبارات دقيقة وسريعة وسهلة الاستعمال. ويحاول علماء الأوبئة والاجتماع تحديد أكثر التدابير فعاليـــة للســـيطرة على انتشــار الفيروس وتقييم أهمية التدابـــير المتطرفـــة، على غرار الحجر الصحي ومنع رحلات السفر، وتداعيات هذه السياسات على جوانب أخرى من قطاع الصحة العامة.

في السنوات الأخيرة، أدت المنافسة الجيوسياسية، لا سيما بين الصين والولايات المتحدة، إلى نشوء اضطرابات في بعض أوساط التعاون في المجالات العلمية. رغم التقدم العلمي الذي يُمهّد لظهور منتجات وتقنيات جديدة، تميل البلدان التي تحاول تحقيق مصالحها الوطنية أو الاقتصادية إلى مقاربة العلم من وجهة نظر تنافسية بدل اللجوء إلى التعاون. تنتج الأدوية واللقاحات أرباحاً طائلة. لكن ترتبط معركة أي بلد لمحاربة عدوى متسارعة بمعركة الدول المجاورة له، من أعداء أو أصدقاء، لذا يجب أن يفوز الجميع بهذه المعركة. في ظل أي وباء عالمي، تتّضح أهمية التعاون المباشر بين الأطراف المعنية. ويُفترض أن تتّضح في الوقت نفسه منافع مواجهة التهديدات المشتركة الأخرى، مثل التغير المناخي.



الوقت ليس مناسباً للانسحاب!

ظهر وباء "كوفيد - 19" تزامناً مع تنامي النزعات القومية حول العالم. لكن لا يمكن أن تطلق سياسات العزلة وكره الأجانب رداً فعالاً على هذه الأزمة العالمية. بل يتطلب هذا الوضع الخطير تقاسم الخبرات والتعاون بين الدول وإطلاق استجابات مدروسة ومنسّقة ومبنية على أدلة مثبتة من جانب الحكومات الوطنية.

لحسن الحظ، تتعدد المؤسسات والقطاعات التي أعلنت استعدادها لتلبية حاجات العالم في هذه الظروف. خصصت مؤسسات "بيل وميليندا غيتس" و"ويلكوم ترست" و"ماستركارد" 125 مليون دولار لمشروع "تسريع علاجات كوفيد - 19" الذي يهدف إلى اكتشاف علاجات محتملة وتسريع تطويرها والاستعداد لتصنيع ملايين الجرعات للعالم أجمع. كذلك، بدأت منظمة الصحة العالمية تضع اللمسات الأخيرة على بروتوكول أساسي للتجارب العيادية، ومن المتوقع أن تزيد أعداد التجارب المرتقبة عبر جمع نماذج من المرضى من أنحاء العالم، ما يعني رصد الاختلافات في طبيعة الاستجابات بين المرضى في مختلف الجماعات السكانية. اجتمع قادة مجموعة السبع أيضاً يوم الإثنين الماضي وناقشوا الالتزامات اللازمة لتكثيف التعاون في قطاع الأبحاث وتطرقــــوا إلى مخــاوف مشـتركة أخرى. لكن لا بد من بذل جهود أخرى لزيادة فعالية التعــــاون الدولي. خـلال اجتماع جديد قادتـــه منظمة الصحــــــــة العالميـة و"الشبكة العالميــــة للتعاون في الأبحـاث المتعلقــة بالتأهــب لمواجهة الأمـراض المعدية"، شدّد أكثــر من 300 خبير على ضرورة تقاسم المراجع المرتبطة بالفيروس والعينات العيادية كخطوة بحثية فورية. لم تكن الدعوات إلى تنسيق التنظيمات بين الهيئات الوطنية والإقليمية ضرورية يوماً بقدر ما هي عليه الآن، فقد اتّضح أن اكتفاء كل بلد أو منطقة بالمصادقة فردياً على أدوات التشخيص والعلاجات يسبّب مشاكل لها عواقب كارثية على الجميع. شكّلت الولايات المتحدة خير مثال على ذلك، فقد عجزت عن استعمال الاختبارات التي طوّرتها جهات أخرى، حتى تلك التي طرحتها منظمة الصحة العالمية، لأنها لم تصادق على استعمالها مع المرضى الأميركيين.

في الماضي، كانت الولايات المتحدة تعطي الأولوية لدورها القيادي في العالم، بما في ذلك قطاع الصحة العامة. في العام 2003 مثلاً، ردّ البيت الأبيض على وباء فيروس نقص المناعة البشرية أو الإيدز عبر إطلاق خطة طوارئ وتخصيص أكثر من 80 مليار دولار للجهود العالمية الرامية إلى احتواء المرض. كذلك، قادت الولايات المتحدة الجهود الدولية لمكافحة انتشار فيروس إيبولا في غرب إفريقيا في العام 2014 وشاركت في تطوير "المراكز الإفريقية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها". لكن يبدو أن أولوياتها تغيرت الآن. اجتمع "مكتب سياسة العلوم والتكنولوجيا" في البيت الأبيض حديثاً مع نظرائه من أنحاء العالم لمناقشة وباء "كوفيد - 19" وشاركت "إدارة الغذاء والدواء" الأميركية في رئاسة أول ورشة عمل تنظيمية عالمية لتطوير لقاح ضد الفيروس، لكن لم تكن الحكومة الأميركية مشارِكة بارزة في منتديات دولية أخرى ولم تُصمّم مقاربة ترتكز على الالتزامات العالمية المشتركة أو تُحدد مسؤوليات جميع قطاعات الحكومة.

على صعيد آخر، يبدو أن توتر العلاقات بين الصين والولايات المتحدة يُهدد بإعاقة تقدّم الأبحاث حول فيروس كورونا. في السنوات الأخيرة، كانت المخاوف الأميركية من إقدام الصين على التجسس ونقل التكنولوجيا كفيلة بكبح التعاون العلمي بين البلدين، وقد اتّضحت المشكلة حين تعرّض كبار الأكاديميين الأميركيين للملاحقة القضائية أو الطرد بعد اتهامهم بالمشاركة سراً في برامج لتطوير القطاع العلمي في الصين. هذه الاضطرابات تحدّ أيضاً من حجم الالتزامات عالية المستوى، فقد امتنع "مكتب سياسة العلوم والتكنولوجيا" مثلاً عن إشراك المسؤولين الصينيين في نقاشاته مع نظرائه الخارجيين. في الماضي، كانت الولايات المتحدة لتستعمل القنوات الحكومية لمعالجة مخاوفها، حتى لو أرادت أن تبحث عن طرقٍ فعالة لمتابعة التعاون مع العلماء الصينيين في مسائل تهمّ الطرفَين معاً. يملك البلدان أكبر الخبرات العلمية في مجال الطب الحيوي. لكن رغم تعاون المؤسسات المعنية لمحاربة وباء "كوفيد-19" اليوم (تتعاون شركة الأدوية الأميركية "جيلياد" مثلاً مع "مستشفى الصداقة بين الصين واليابان" في بكين لاختبار دواء مضاد للفيروسات على مرضى في "ووهان")، لا تزال العلاقات بين الحكومتين متوترة مع أن التعاون المشترك قد يسهم في توسيع نطاق تقاسم البيانات والعيّنات لتسهيل معالجة هذه الأزمة.



مسؤولية عالمية مشتركة

تجاوزت كوريا الجنوبية وباء "سارس" في العام 2003، وتعكس طريقة تعاملها مع فيروس "كوفيد - 19" اليوم مدى جهوزيتها في ظروف مماثلة وأهمية الدروس التي استخلصتها من تجاربها السابقة. نجح البلد عملياً في "تسطيح منحنى الإصابات" كي يتمكن نظام الرعاية الصحية المحلي من السيطرة على الوباء. تثبت تجربة كوريا الجنوبية أهمية تقاسم الدروس المستخلصة مع الآخرين وضرورة وضع أسس سليمة في الظروف الإيجابية للاستفادة منها في فترة الأزمات.

بدأت الأوساط العلمية حول العالم تواجه هذه الأزمة بناءً على أساس قوي من الأهداف والروابط المشتركة، وكان العلماء قد بنوا هذا الأساس وحافظوا عليه عبر المشاريع والتبادلات المشتركة والاجتماعات الدولية والحوارات الجدّية. تكون هذه الروابط مفيدة دوماً، لكنها أساسية خلال الأزمات. ذكر أنطوني فوسي، مدير "المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية" في الولايات المتحدة، أن العلاقة التي طوّرها مع الباحثين الصينيين على مر السنين ساعدته على أخذ مبادرات تتجاوز القنوات الرسمية.

لا شك في أن المؤسسات الوطنية والعالمية الراهنة ستتغير كثيراً بعد مرور هذه الأزمة التي تنذر بأمراض مُعدية أخرى في المراحل المقبلة. يؤكد تفشي الفيروس بهذا الشكل على أهمية وضع سياسة أميركية تعترف بالترابط البشري والمسؤوليات المشتركة وبأهمية الولايات المتحدة حين تختار أداء دور القيادة. يزيد التعاون الدولي في مجال العلوم الآمال بإيجاد حل للأزمة الراهنة ويشكّل نموذجاً يُحتذى به في المؤسسات الأخرى لبناء مستقبل مشترك أفضل حالاً وأكثر أماناً.


MISS 3