عيسى مخلوف

وقفة من باريس

ملامح اليوم الأوّل بعد العاصفة

4 نيسان 2020

04 : 40

لوحة بعنوان "طَوف الميدوزا" للفنّان الفرنسي تيودور جيريكو، متحف "اللوفر".

يواكب الوباء الذي اجتاح العالم قلق مزدوج: مواجهة الموت والاستعداد للمرحلة التالية التي لا تقلّ خطراً. لذلك، يكثر الحديث عن عدد المصابين والضحايا، عن واقع المستشفيات وقدراتها على الاستجابة للظرف الطارئ، والجهود المبذولة في المختبرات الطبّيّة لإيجاد اللقاح الشافي، من جهة، ومن جهة ثانية، هناك التفات إلى الانقلاب الذي حدث فجأةً في حياة البشر وغيَّر سلوكهم اليومي وجمَّد من حولهم كلّ شيء، وإلى انعكاسات ما يحدث على الوضع الاقتصادي، فيما الجميع يردّد: لا شيء سيكون غداً كما كانت الحال بالأمس. لكن، ما الذي سيكون؟ بل، ماذا يمكن أن يكون؟

تطالعنا، هنا وهناك في العالم، أصوات مفكّرين ومؤرّخين وكتّاب واقتصاديين، بعضهم مسكون بالأمل وينظر إلى الغد نظرة تفاؤل إيماناً منه بأنّ عالماً جديداً أكثر عدلاً ومساواة سيولد من هذه الكارثة، وأنّ الرهان، بعد اليوم، سيكون على التخصّص والكفاءات، وعلى التضامن الإنساني في مواجهة المخاطر التي لا تميّز بين إنسان وآخر، وبين دولة وأخرى، وكذلك على إعادة نظر كاملة في العولمة، وإيلاء الشأن الصّحي وقطاع التعليم ما يستحقّانه من اهتمام لما لأهمّية هذين القطاعين ولقدرتهما على استشراف الأمراض والأوبئة والتصدّي لها. بين الذين يتبنّون هذه الأفكار عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران الذي قال إننا نشعر اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، بوحدة مصير البشريّة جمعاء وإنّ هذه الأزمة "ينبغي أن تساعد على الخروج من الأنساق الاقتصاديّة والسياسيّة السائدة على جميع المستويات".

كشف موران أيضاً أنّ العولمة وصلت إلى طريق مسدود. فإذا كانت العولمة الاقتصاديّة والتقنيّة قد خلقت، منذ 1990، ترابطاً متعدّد الأبعاد بين الدول والشعوب، فإنّها لم تكن مرادفاً للتضامن على الإطلاق. هذا الموقف سبق للمفكّر ريجيس دوبريه أن تطرّق إليه في كتاب بعنوان "في مديح الحدود" وجاء فيه أن لا حدود لحركة رأس المال والبضائع والتلوّث والأوبئة، لكن هناك حدوداً وجيوشاً ومصالح واعتبارات بين الدول والإيديولوجيّات والأديان.

من جانب آخر، ثمّة من ينظر إلى المرحلة المقبلة بكثير من الشكّ والارتياب، ويرى أنّ الواقع الراهن لن يفضي بالضرورة إلى تغيّرات إيجابيّة، بل قد يضاعف من الرقابة وتضييق الحرّيّات في ظلّ أزمات اقتصاديّة متفاقمة. ردّ الفعل الصيني، مؤخّراً، على موقف الكاتب البيروفي الحاصل على جائزة نوبل للآداب مؤشّر إلى ما يلوح في الأفق. لقد نشر يوسا في صحيفة "الباييس" مقالاً تناول فيه "حالة الرعب الناجمة عن الفيروس الآتي من الصين". وانتقد النظام السياسي والاقتصادي الصيني، ومحاولته التستّر على الوباء في المرحلة الأولى لظهوره، وملاحقة من اكتشفه وأشار إلى خطورته. وختم يوسا: "كان بالإمكان تفادي كلّ ما حدث في العالم لو كانت الصين دولة حرّة وديموقراطيّة، وليست الدولة الديكتاتوريّة التي نعرفها". في اليوم التالي، ردّت الصين بعنف، عبر سفيرها في ليما، على الكاتب البيروفي، كما صادرت كتبه ومنعت توزيعها في جميع مواقع البيع في البلاد.

بعد فترة من الوقت، سيجد العلماء اللقاح المطلوب للقضاء على الوباء، لكن سيظلّ المستقبل غامضاً يتراوح بين احتمالين: صحوة تؤسّس لواقع جديد أكثر توافقاً مع حياة الإنسان والبيئة، أو الوقوع أسرى أنظمة شموليّة تحصي أنفاس البشر وتتحكّم بمصائرهم. لكن، من المؤكّد أنّ التقدّم الصحيح لا يستقيم فعلاً في غياب الحرّيّة والنزعة الإنسانيّة. يبقى السؤال الذي تستتبعه أسئلة كثيرة: هل سيفتح وباء كورونا أعين العميان هذه المرّة، والمقصود بهم، هنا، أولئك الذين ظنّوا أنّ الأرض ملكاً لهم وأنهم أسيادها يدمّرون توازن عناصرها ويبطشون بها وبمن عليها كما يشاؤون؟ هل ستكسبنا هذه التجربة فكرة واضحة عن موقع الإنسان في الكون وعن حجمه الصحيح؟ هل سنعي ماذا فعلت بنا الأرض من خلال أحد أصغر مخلوقاتها، وكيف غيّرت حياتنا بلمح البصر وجعلتنا نعود إلى جحورنا نحتمي بها خائفين، كما كان أجدادنا القدامى يتلطّون في المغاور؟

يقول الكاتب الكولومبي ويليام أوسبينا في تأمّله لحظتنا الراهنة: "كلّ شيء يذكّرنا الآن بأنّنا نستطيع أن نعيش من دون طائرات، ولكن ليس من دون أوكسيجين، ويذكّرنا بأنّ أكثر من يعمل من أجل الحياة والعالم ليس حكومات الدول، بل الأشجار".


MISS 3