مع وصول المواجهة بين زعيم مجموعة «فاغنر» يفغيني بريغوجين والقيادة العسكرية الروسية، على رأسها وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف، إلى ذروتها، اتخذ الرجل المقرّب من بوتين والمنفّذ الخفي لسياساته في سوريا وأفريقيا وأوكرانيا قراره الحاسم بإطلاق تمرد عسكري واسع النطاق، أحدث زلزالاً داخلياً في روسيا.
لم تتخطَّ مدّة هذا التمرّد يوماً كاملاً، لكنّها حبست أنفاس العالم وهو يراقب مسار تطور الوضع، وسرعة تحرك «فاغنر» باتجاه السيطرة على مقر القطاع الجنوبي للجيش الروسي في روستوف، المدينة الاستراتيجية جنوبي روسيا، التي كانت مركز انطلاق العمليات العسكرية نحو أوكرانيا، لينطلق منها باتجاه العاصمة الروسية حيث اقترب لمسافة 200 كلم من موسكو، قبل أن تنجح مساعي رئيس بيلاروسيا بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبريغوجين، بوقف تحركات «فاغنر» والإنسحاب إلى قواعدهم مقابل ضمانات أمنية من بوتين.
يظهر هذا التقدّم السريع لمجموعة «فاغنر» من المناطق الأوكرانية الشرقية إلى الداخل الروسي ومنها باتجاه موسكو مروراً بروستوف التي تبعد نحو 1000 كلم من الكرملين، هشاشة في منظومة الأمن القومي الروسي، وضعف الإستخبارات الداخلية والحرس الوطني الروسي وخللاً في مرونة القرار العسكري لتوجيه القدرات الدفاعية بسرعة على محور تقدّم المجموعة المسلّحة التي يبلغ عددها ما يقارب الـ25 ألف عنصر.
تقدّمت مجموعة «فاغنر» مسافة 800 كلم من روستوف إلى المنطقة التي تبعد 200 كلم عن موسكو، دون مواجهات مع الجيش الروسي، هذا الجيش الذي يملك أقوى المروحيات القتالية، السلاح المثالي لوقف التوغلات المسلّحة السريعة، فلم يستخدمها إلّا لقصف جسر «أم 4» بعد فترة طويلة من التوغّل دون إعاقة تقدّم مسلّحي «فاغنر». إضافةً إلى ذلك، فإنّ سمعة المخابرات الروسية التي تعتبر من أقوى الأنظمة الإستخباراتية في العالم، أظهرت عن ضعفها في الداخل، فكيف لم تعرف هذا المخطّط الذي يبدو أنّه كان محضّراً، دون إعلام صانعي القرار العسكري بالمحاور المحتملة والتوقعات، فلم يكن هناك أي إجراءات وقائية أو حتّى إستباقية لمنع التوغّل؟
بغض النظر عن إنشغال الجيش الروسي بالذات في الجبهة الأوكرانية، لكن الحرس الوطني الروسي ما زال على الأراضي الروسية ومهمته معالجة أي تهديد قومي، وتملك روسيا أقماراً اصطناعية لمراقبة أمن أراضيها، والأسلحة الروسية الدفاعية ليست كلّها في الجبهة الأوكرانية، لذلك يبقى الخلل الكبير في المخابرات الداخلية الروسية ومراكز القرار العسكري التي أحرجت بوتين أمام العالم ولا نعرف بعد ما هي التنازلات التي قدّمها من أجل توقيف هذا التهديد الكبير لسلطته، فهو شبّه التمرّد العسكري بثورة 1917 مظهراً أهمية الخطر الذي مرّت به روسيا.
من الواضح أنّ بريغوجين يعرف الثغرات في القيادة العسكرية الروسية، هذا بفضل الجنرالات المتقاعدين الذين يعملون تحت إمرته في قوّات «فاغنر»، إضافة إلى العلاقات الكبيرة لبريغوجين مع العديد من الجنرالات في الجيش الروسي الذين يعرفون أنّ له قوّة عسكرية خاصة لا يجب التخلّي عنها لأنّها أثبتت براعتها في حرب المدن وقتال الشوارع أكثر من الجيش الروسي النظامي أو الجيش الأوكراني، وبريغوجين يطالب بوتين باستبدال رئيس الأركان فاليري غيراسيموف بأحد هؤلاء الجنرالات، لتتقاطع مصالح الجنرالات مع طموحات بريغوجين السياسية.
شعبية بريغوجين بين المواطنين الروس تتزايد خصوصاً بعد معركة باخموت، والكثير منهم يرشّحه ليكون الرئيس المقبل لروسيا بعد بوتين، وهذا يمكن أن يكون الدافع الأساسي لتوسيع بريغوجين دائرة الإنتقادات لتشمل بوتين بالذات، الذي دفع ثمن هشاشة الأمن في الداخل الروسي وقدّم تنازلات ليُركّز فقط على الوضع في أوكرانيا.
هيبة بوتين ما قبل التمرّد المسلّح لـ»فاغنر» ليست كما هي الآن، فلا أحد كان يتوقّع أنه لن يتمكّن الحرس الوطني الروسي من توقيف توغّل 25 ألف مسلّح من المرتزقة غير المتمتّعة بالحسّ الوطني، وأنّ الرئيس البيلاروسي سيكون الوسيط لتوقيف التوغّل الذي كان يبدو أنه خطر جدّاً على سلطة الكرملين، خصوصاً بعد استعداد المعارضين الروس المسلّحين الإنضمام إلى «فاغنر» لمساعدتهم على نجاح الإنقلاب.
بالطبع هذه الفوضى في الداخل الروسي ستؤثر سلباً على الجبهة الطويلة في أوكرانيا التي تبلغ 900 كلم، فبات واضحاً أنّ روسيا لا تملك الإحتياطات اللازمة لصدّ أي هجوم كبير محتمل في جبهة واحدة، إضافةً إلى إنحطاط معنويات العناصر الروسية التي تعرف الواقع الهشّ الذي تمرّ به القيادة الروسية.