ديمتري ألبيروفيتش

رئيس مجموعة "فاغنر" تراجع عن تنفيذ الإتفاق الذي أبرمه مع بوتين لضمان بقائه على قيد الحياة

إغتيال بريغوجين لم يكن عملاً إنتقامياً بل تضارب مصالح

8 أيلول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

زهور تحيط بقبر بريغوجين في كاتدرائية سانت بطرسبرغ | روسيا، 30 آب ٢٠٢٣

عندما لاقى رئيس مجموعة «فاغنر»، يفغيني بريغوجين، حتفه مع قادة آخرين في المجموعة على بُعد 30 ميلاً من جنوب شرق فالداي، مقر الإقامة المفضل لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، افترض معظم الناس أن تلك العملية كانت رداً انتقامياً من الرئيس الروسي غداة تمرد بريغوجين الفاشل هذا الصيف. لكنّ الأسباب الحقيقية لذلك الاغتيال وتداعيات قتله على استقرار النظام قد تكون مختلفة.

قد يبدو اعتبار هذه العملية انتقاماً لما حصل منطقياً، بما أن تمرد بريغوجين بدا مهيناً لبوتين. لكن تشير الأحداث المتلاحقة منذ ذلك الحين إلى وضع مختلف. لا يتماشى دافع الانتقام مع عفو بوتين العلني عن بريغوجين خلال الصفقة الغريبة المبرمة في شهر حزيران الماضي، فقد وافق المتمرد مقابل العفو على سحب المدرعات التي كانت تتجه نحو موسكو، ونزع أسلحة قواته العسكرية، والعيش في المنفى البيلاروسي. لكن استناداً إلى سجلات الرحلات الخاصة بطائرة بريغوجين ورؤيته شخصياً في جميع أنحاء سانت بطرسبرغ، وموسكو، وأفريقيا، هو لم يتخذ أي خطوة للاستقرار في مينسك.

كذلك، لا تبدو النظرية القائلة إن الرئيس الروسي كان يحاول بكل بساطة إقناع رئيس «فاغنر» بأنه أصبح بأمان قبل أن يأمر بوضع قنبلة على متن طائرته منطقية. حصل الكرملين على فرص عدة لإصدار أمر بقتل بريغوجين خلال تنقلاته في أنحاء روسيا على مر الشهرين الماضيَين.

يقال إن الانتقام يُطبَخ على نار هادئة، لكن كان بوتين ليواجه العواقب إذا غيّر رأيه وتراجع عن وعوده بشأن سلامة بريغوجين. بعدما فشل بوتين في تدمير مجموعة «فاغنر» خلال «المسيرة من أجل العدالة» نحو موسكو، قرر إصدار عفو بحق بريغوجين لإنهاء الانتفاضة وضمان سلامته علناً. لم يكن هذا القرار يهدف بكل بساطة إلى إنهاء هذا الفصل المحرج من الأحداث بسرعة وبأقل أضرار ممكنة، بل إنه عكس أيضاً قناعة مفادها أن قوات «فاغنر» قد تفيد الكرملين وتساعده على تحقيق طموحاته الإمبريالية مستقبلاً. اقتصر ثمن هذه الصفقة على وعد باختفاء بريغوجين عن الأنظار.

من المعروف أن بوتين يكذب طوال الوقت أمام المجتمع الدولي، والصحافة، والرأي العام الروسي، لكنّ الكذب على شخصية نخبوية في النظام القبلي وشبه المافياوي داخل الحكومة الروسية يترافق مع عواقب أكثر خطورة. قد يبدأ الأوليغارشيون وشخصيات أخرى من النخبة الأمنية حينها بالتساؤل عن احتمال أن يقعوا بدورهم ضحية هذا النوع من الخداع، وقد يعجزون عن الوثوق بكلام بوتين مجدداً. يقوم الحُكم الأوليغارشي المتعارف عليه في عهد بوتين على المبدأ التالي: طالما يتقاسم المسؤولون الغنائم والمكاسب مع أصحاب السلطة، ويحققون أمنيات الكرملين في مختلف المجالات، ويمتنعون عن المشاركة في نشاطات سياسية محظورة، سيعتني النظام بهم، ويضمن سلامتهم الشخصية، ويحرص على حماية ثرواتهم. قد يؤدي تراجع بوتين عن هذا المبدأ إلى خسارته لثقة النخبة ودعمها.

كانت ردة فعل أعضاء أساسيين في النخبة الروسية على موت بريغوجين مؤشراً آخر على عدم اعتباره خائناً يستحق الموت. أعلن أليكسي دومين، حارس بوتين الشخصي السابق، وحاكم إقليم «تولا» الحالي، وخَلَف وزير الدفاع المحتمل، أن بريغوجين كان «رجلاً وطنياً حقيقياً حقق الكثير لبلده وسيتذكر وطنه الأم ما فعله من أجله دوماً». حتى أنه ذهب إلى حد الاعتراف صراحةً بأن قادة «فاغنر» المقتولين «ما كانوا خونة». كذلك، قال رمضان قديروف، رئيس الشيشان القوي والموالي لبوتين، إن موت بريغوجين «خسارة كبيرة للأمة». ما كانت هذه الإشادة من أهم أصحاب السلطة في الكرملين لتصبح ممكنة لو تمت تصفية بريغوجين بسبب الخيانة.

كان بريغوجين ليستفيد من عفو حقيقي رغم انتفاضته المسلحة لأن تحركاته لم تكن تهدف إلى تحدّي منصب بوتين في السلطة، بل إنه كان يحتج على خطة وزير الدفاع سيرغي شويغو التي تقضي بتفكيك الشركات العسكرية الخاصة مثل «فاغنر» لضمّها إلى القوات الروسية المسلحة، ولو أنه استعمل في مساعيه قوات مدرعة أسقطت عدداً من المروحيات وطائرة قيادة وتحكّم تابعة للقوات الجوية الروسية. لم يكن تمرّد بريغوجين يهدف إذاً إلى استبدال زعيم الكرملين، بل إنه أراد أن يتابع السيطرة على قواته المؤلفة من مرتزقة ويستفيد من الفرص المربحة التي يحصل عليها بفضلهم. كانت الانتفاضة كلها تنجم إذاً عن تضارب مصالح بين النخب الروسية، لكنها أدت هذه المرة إلى فوضى قاتلة.

يتعلق تفسير محتمل آخر للسبب الذي دفع بوتين في نهاية المطاف إلى إصدار أمر الاغتيال بتراجع بريغوجين، لا بوتين، عن بنود الاتفاق المبرم في حزيران بوساطة من رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو. من الواضح أن ثمن تمرد بريغوجين كان يقتصر على مطالبة المتمرد بالتخلي عن جزء كبير من إمبراطوريته التجارية الواسعة والسماح لأصدقاء الكرملين بالاستيلاء على مختلف أجزائها.

في البداية، سار الاتفاق بالشكل المخطط له. أغلق بريغوجين منظماته الإعلامية الدعائية، بما في ذلك «وكالة أبحاث الإنترنت» المعروفة بجيوشها الإلكترونية السيئة، علماً أن تدخّلها في الانتخابات الأميركية كان قد دفع وزارة العدل الأميركية إلى توجيه تُهَم إلى بريغوجين. كذلك، طلب هذا الأخير من قوات «فاغنر» إعادة أسلحتها الثقيلة إلى الجيش الروسي ويقال إنه ألغى عقوده مع وزارة الدفاع الروسية.

لكنه لم يكن مستعداً للتنازل عن جزء واحد من مصالحه التجارية المهمة، لا سيما عملياته الأمنية ومشاريع التعدين في أفريقيا. طوال عشر سنوات تقريباً، كانت مجموعة «فاغنر» تنشط في أنحاء القارة لتقديم المساعدات الأمنية والتدريبات، حتى أنها كانت تقدم الدعم من وقتٍ لآخر للانقلابات (وتشارك في حملات التعذيب والقتل الإرهابي) في مالي، وجمهورية أفريقيا الوسطى، والسودان، والموزمبيق، وليبيا، وتشاد. في المقابل، حصد بريغوجين أرباحاً قيّمة من عمليات استخراج المواد الطبيعية الإقليمية مثل الذهب، والماس، والنفط، والغاز.

خلال رحلة حديثة إلى كييف، ذكر بعض المسؤولين الحكوميين الأوكرانيين أنهم يملكون معلومات مفادها أن بريغوجين جمع أكثر من 4 مليارات دولار من الذهب وحده بفضل تلك العمليات. لكن قرر بوتين بعد تمرد مجموعة «فاغنر» أن الوقت حان كي يتخلى بريغوجين عن الضمانات الأمنية التي يحصل عليها هؤلاء المرتزقة وأن تستولي عليها وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية التابعة له وشركات عسكرية خاصة أخرى تابعة للنظام مثل «ريدوت». سيحصل أعضاء الدولة الأمنية الأكثر مصداقية على مكافآت معينة مقابل معاقبة بريغوجين.

في هذا السياق، ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» حديثاً أن بوتين شخصياً أخبر رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى بأن الوقت حان لإنهاء علاقته مع بريغوجين، وقد أرسلت وزارة الدفاع الروسية وفوداً إلى الزعماء الأفارقة لإخبارهم بأنهم سيتعاملون مع الحكومة الروسية مباشرةً من الآن فصاعداً.

لكن رفض بريغوجين على ما يبدو تقبّل هذا التلميح، فتابع في أيامه الأخيرة التجول في أفريقيا وانتقل من بانغي، عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى، إلى باماكو، عاصمة مالي. كان يُصِرّ أينما ذهب، خلال الاجتماعات الخاصة وفي مكالمة فيديو نشرها لاحقاً على قناته في «تلغرام»، على توجّه مجموعة «فاغنر» إلى توسيع حضورها ودعمها لهؤلاء القادة الأفارقة. وتذكر صحيفة «وول ستريت جورنال» أنه قال لحلفائه في السودان إنه يريد المزيد من الذهب، بعدما جلب له هؤلاء الذهب من منجم «سونغو» في دارفور.

هذه القرارات المتمردة أثارت استياء بوتين حتماً. خلال حفل التأبين الذي نقلته القنوات التلفزيونية بعد موت بريغوجين، اعتبره بوتين «رجل أعمال موهوباً» ارتكب «أخطاءً كبرى في حياته»، لكنه تطرق بأسلوب غريب وغير مناسب إلى تفاصيل أعمال بريغوجين في أفريقيا، وهو الدليل الواضح الوحيد على الإمبرطورية التجارية الواسعة التي كان يملكها ذلك الأوليغارشي، فضلاً عن مشاركته في عمليات استخراج «النفط، والغاز، والأحجار، والمعادن الثمينة هناك».

من وجهة نظر بوتين، كان بريغوجين يتمتع بالغطرسة الكافية لمتابعة التصدي لرغبات الرئيس، بدل أن يستغل فرصة العفو عنه ويختفي عن الأنظار. ما كان يمكن مسامحته للمرة الثانية. مجدداً، أخطأ بريغوجين في احتساب عواقب هذا الخلاف التجاري مع بوتين ونُخَب روسية أخرى، ما أدى إلى قتله هذه المرة.

لكن يبدو أن آخرين ارتكبوا أخطاءً مشابهة. كانت الأعباء المتزايدة على النظام بسبب غزو بوتين الفاشل ضد أوكرانيا يعني تأجيج أعمال العنف، ولو بطريقة أضعف مما توقع الكثيرون. وفي ظل تراجع الموارد المالية التي يمكن الاتكال عليها، وتنامي المخاوف الأمنية في كل مكان، وتفريغ الدولة من هياكلها وتعريضها لإخفاقات عسكرية متكررة، أصبحت المنافسة القائمة أكثر خطورة مما كانت عليه منذ عقود. في هذه السنة وحدها، مات 16 شخصاً من رجال الأعمال الروس البارزين والمسؤولين الحكوميين، بالإضافة إلى بريغوجين، لأسباب متنوعة مثل السقوط من النوافذ، أو الموت بعد أيام من تشخيص السرطان لديهم، أو حوادث السير، أو الغرق، أو الانتحار، أو حتى موتهم حرقاً بسبب حريق ناجم عن سيجارة مشتعلة. يمكننا أن نضيف الآن تحطم طائرة في السماء إلى هذه القائمة الطويلة.

يبدو أن زمن تصفية الحسابات والاقتتال الداخلي بين النُخَب الحاكمة عاد إلى الواجهة في روسيا بعد أكثر من 20 سنة على الاستقرار الذي فرضه بوتين، وقد يترافق هذا الوضع مع زيادة احتمال أن تغرق روسيا في الفوضى مع مرور الوقت، ما قد يؤدي يوماً إلى تهديد منصب بوتين في السلطة.


MISS 3