زينة طراد

معالجة نفسية وعضو في "التجمع اللبناني لتطوير التحليل النفسي"

يارا دباس تابت: قدرة اللبنانيين على التحمّل نموذجية

14 نيسان 2020

04 : 51

تحمل يارا دباس تابت شهادة في علم النفس العيادي من كلية علماء النفس في باريس، وقد تابعت تخصصها في علم نفس الأطفال ونالت شهادة جامعية أخرى في هذا المجال تحت إشراف البروفيسور بيرنار غولس، كما أنها تدربت في "البيت الأخضر" وفي وحدة العلاج النفسي الخاصة بالأمهات والأطفال. بعد عودتها الى لبنان أصبحت معالجة نفسية للراشدين وعضواً في "التجمع اللبناني لتطوير التحليل النفسي"، وهو فريق بحثي تابع للرابطة الدولية للتحليل النفسي. في هذه المقابلة تُشاركنا تابت- التي ما زالت تخصص وقتها لعلم النفس العيادي للأطفال والراشدين- بعض الأفكار والنصائح لتحسين طريقة التعامل مع الأزمة الصحية الراهنة وسط العائلات، وتطرح معلومات عن منصة Speakup Covid التي تأسست منذ ثلاثة أسابيع لمساعدة المعالجين في الخطوط الأمامية في مجال الرعاية الصحية.


هل تستقبلين مرضاكِ حتى الآن؟ وهل تقابلين أي مرضى جدد؟

منذ فرضت وزارة الصحة اللبنانية الحجر المنزلي حفاظاً على سلامة الناس لأسباب نعرفها جميعاً، لم أعد أستقبل أي مرضى في عيادتي. لكني أتابع الجلسات على تطبيق "واتساب"، كما يفعل معظم زملائي وحين يكون هذا التدبير ممكناً مع المرضى.

خلال جلسات "واتساب"، يصبّ التركيز على عامل الإصغاء. في المقابل، يرتكز العلاج النموذجي على مقابلة بين شخصين وعلى مساحة محددة ومكان معروف وتواصل غير شفهي واستعمال الأصوات وإيقاظ الحواس ومجموعة عناصر تُبنى عليها هذه العلاقة الثنائية التي لا تنشأ لا عبر لقاء حقيقي. أصبحت الجلسات التي نطبّقها عبر "واتساب" منذ بداية الحجر المنزلي ممكنة لأن العلاقة العلاجية كانت قائمة أصلاً بين الطرفين. لكن إذا طالت مدة هذا الوباء، قد نضطر للتفكير بتنظيم الجلسات الأولى بهذه الطريقة إذا لم نجد حلاً آخر. في ما يخص الاستشارات العاجلة، طُرِحت منصات كثيرة للإصغاء إلى الناس ودعمهم، وهي تستهدف كل من يحتاج إلى العلاج خلال هذه الأزمة، منها منصة Speakup Covid التي تقدّم الدعم إلى العاملين في الخطوط الأمامية في مجال الرعاية الصحية عند الحاجة.


كيف تساعدين الأطفال على تقبّل هذا العزل القسري؟

تختلف حاجات كل طفل في هذه الظروف بحسب عمره وشخصيته. لذا من الضروري أن نصغي إلى تلك الحاجات ونبتكر الاستجابات المحتملة لتلبيتها، سواء كان الطفل يحتاج إلى التعبير عن نفسه جسدياً أو إلى التواصل مع أصدقائه. يرتبط العزل القسري بمفهوم المساحة ويشير إلى البقاء في مكان واحد وحصر التحركات المحتملة.

لمساعدة الأولاد على التعايش مع هذا الوضع إذاً، يجب أن نحافظ قدر الإمكان على مفهوم المساحة والروابط لديهم. تتعدد حاجات الأولاد الأساسية، منها تنشق الهواء والمشي والركض واللعب بالكرة والقفز، ولو لساعة واحدة في أسفل المبنى السكني أو في أي مساحة خضراء. ومن الأفضل أن يتمكنوا من الوصول إلى الطبيعة! يشير هذا المفهوم أيضاً إلى المساحة الشخصية والمساحة المخصصة للتفكير والإبداع. من الضروري أن يحصل الأولاد على فسحة للتعبير عن عواطفهم.

كذلك، يجب أن نعطيهم المساحة الكافية لتفريغ مشاعر الحزن أو الإحباط أو الغضب الناجمة عن حرمانهم من المدرسة أو مقابلة أصدقائهم، ويجب أن نساعدهم للتعبير عن تلك العواطف شفهياً بدل صدّهم عبر الاستخفاف بمشاعرهم. حتى لو كان جميع الناس في الوضع نفسه، لا يعني ذلك ألا يشـــعر الطفل بالحزن أو القلق.

يخطئ من يدّعي أن الوضع لم يتغير، وكأننا لم نخسر شيئاً من نمط حياتنا اليومية. يســـتفيد الأولاد والراشـدون معاً من إيجاد من يفهمهم ويسمعهم. الكتابة مساحة إبداعية لا تُقَدّر بثمن. تسمح الكتابة بتشغيل التفكير وكأننا نعطي راقصاً مشهداً مسرحياً حيث يستعمل جسمه للتعبير عن نفسه. لكن إذا كانت المساحة والحركات محصورة على أرض الواقع، لا شيء أفضل من توسيع مساحة الإبداع عن طريق الكتابة والرسم والأشغال اليدوية والاعتناء بالحديقة... يعني الحفاظ على المساحة أيضاً التمسك بالحميمية والأسرار ولحظات الهدوء أو الوحدة لاكتشاف الذات، لا سيما في حياة المراهقين. رغم العزل القسري الذي يفرض على البعض العيش في غرفة واحدة، تبقى هذه الظروف فرصة مناسبة للتعلم وتجديد المعارف والمشاركة واحترام إيقاع حياة الآخرين قدر الإمكان. كذلك، تشكّل الروابط عناصر أساسية من الحياة اليومية ويجب أن يستفيد منها الأشخاص المحصورون في مكان واحد لتقاسم نشاطات مشتركة مثل الطبخ والرقص واللعب وتصفح ألبومات الصور... إنها فرصة مثالية للتلاقي وتقوية العلاقات، وتسمح مختلف أنماط التواصل أيضاً بالحفاظ على الروابط مع الأحباء القريبين والبعيدين.



هل تلاحظين أي زيادة في عدائية أكثر الأشخاص ضعفاً أو في ميولهم الانتحارية؟


بشكل عام، تكون الظروف المرتبطة بمخاوف حقيقية من الوباء وبشكوك مهنية كبرى أو الخوف من المستقبل مصادر قلق فائقة لجميع الناس، فكيف بالحري للأفراد الأكثر ضعفاً؟ يجب ألا يتردد الشخص الذي تراوده أفكار انتحارية أو يتبنى سلوكيات عنيفة في طلب المساعدة. أنا أفكر بجميع الناس المعزولين: أمهات عازبات، أزواج أو عائلات في وضع صعب... يعيش هؤلاء أصلاً معاناة كبرى ولا شك في أن هذه الظروف تزيد معاناتهم. يصعب على الناس أحياناً أن يستشيروا أهل الاختصاص لأنهم يشعرون بالوحدة والعار، ومع ذلك من الضروري أن يتلقوا المساعدة اللازمة.





ما رأيك بطريقة الشعب اللبناني في إدارة هذه الأزمة الصحية؟


ربما تفاجأ الشعب بإغلاق المدارس في البداية، لكن سرعان ما نشأ جو من الثقة والتعاون بين المسؤولين في القطاع الصحي والشعب. التزم اللبنانيون جيداً بالقواعد المطلوبة. لقد واجهوا هذا الوباء بكل وطنية ومسؤولية، ولا يزال عدد الإصابات مستقراً ومحصوراً نسبياً.

يؤكد هذا الوضع مجدداً أن الشعب الذي يتمتع ببنية متينة ونظام حكم مستعد لتحقيق مصلحة الناس يستطيع العمل بنضج ووطنية. على أمل أن تمتد هذه الثقة إلى مجالات أخرى تتجاوز القطاع الصحي. ويجب ألا ننسى أيضاً قوة التحمّل النموذجية التي أثبتناها على مر سنوات الحرب وخلال الأشهر الأخيرة. لكن تبقى الأزمة الاقتصادية طبعاً جزءاً من أبرز انشغالات اللبنانيين لأن مدة انعدام الأمان الاقتصادي والاجتماعي لا تزال مقلقة جداً مهما كان الشعب قوياً.

مع ذلك، لا بد من الإشادة بتضامن الشعب اللبناني وعمل المنظمات غير الحكومية، منها "بيت البركة" و"بنك الغذاء اللبناني"، إذ تتعاون هذه الجهات مع جمعيات أخرى لتوفير الطعام لأكثر الناس حرماناً وصون كرامتهم والاهتمام بهم.


كيف يتفاعل الأولاد مع هذه الأزمة برأيك؟


يتوقف الوضع على السياق العائلي والتداعيات المباشرة للوباء على صحة أفراد العائلة أو ظروفهم المهنية. لكن حين تخلو فترة العزل القسري من نوبات القلق الفائقة، يبقى الوضع إيجابياً للأطفال ويستفيدون أيضاً من وجود أهاليهم إلى جانبهم.

عمدت المدارس إلى توفير دروس عبر الإنترنت لمتابعة البرنامج الدراسي والتواصل مع التلاميذ. إنها خطة فاعلة بدرجة متفاوتة وتتوقف نتائجها على عمر الأولاد. لكن يكون الطفل حساساً جداً ويدرك ما يقدّمه الراشدون والمدرّسون والأهالي له في مواجهة هذه الأزمة.

من الطبيعي أن تحصل تقلبات مزاجية من وقت لآخر وتظهر مشاعر الإحباط والملل والغضب والفرح والحزن بحسب مسار الأيام والنشاطات التي يمكن تنظيمها رغم الحجر.

تكون هذه المشاعر طريقة للتعبير عن الوضع الجديد وتعكس اضطراب الحياة اليومية والخسائر المرافقة للأزمة وتداعيات إقفال المدارس واستحالة رؤية الرفاق والاشتياق إليهم.

في هذه الظروف، يجب أن يُطَمْئن الكبار أولادهم ويحافظوا على جزء من روتينهم، ويستغلوا الوقت بأفضل طريقة، ويقترحوا عليهم نشاطات ممتعة، ويتمسكوا بقواعد الحياة اليومية، ويعلّموهم المعايير الصائبة، ويُشعِروهم بالاطمئنان أمام هذا الوضع الاستثنائي الذي زعزع حياة الجميع.


هل يجب أن نعبّر عن قلقنا أمام أولادنا؟ وهل من نصائح للأهالي القلقين؟


لقد استوعب الأولاد خطورة الوضع حين أقفلت المدارس أبوابها، لكنهم لا يفكرون بجميع جوانب الوباء بقدر الراشدين.

يتولى الأهل مهمة التوفيق بين الداخل والخارج ومن الضروري أن يحافظوا على هذا الدور.

يجب أن يبلغ الأهل أولادهم بالحقيقة لكن من دون أن يغرقوهم بمعلومات مقلقة أو ينقلوا إليهم مخاوفهم الكبرى لأنهم لا يجيدون التعامل معها. حتى لو تغيّرت مسائل كثيرة في الحياة اليومية، يقلّد الصغار دوماً طريقة تكيّف الراشدين مع الأوضاع وقد يتحولون إلى شركاء استثنائيين لهم في مواجهة الأزمة.

أفترض أحياناً أنّ العزل القسري مرادف للاقتراب من عواطف بعضنا البعض ومشاعر القلق التي تنتابنا.

من الضروري أن يتحاور الجميع حول مشاعرهم ويعبّروا عنها شفهياً ويتشاركوا أفكارهم ورغباتهم. ويجب أن نجيد الحفاظ على المساحات الفردية الخاصة بكل شخص، بما في ذلك مساحة الأطفال طبعاً، ومن الضروري أن نحميهم من فائض العواطف والمعلومات المقلقة حول المستقبل مثلاً، لأن الراشدين لا يستطيعون استيعاب حقيقة الوضع حتى الآن أصلاً.

أنا أنصح الأهالي القلقين بألّا يبقوا معزولين بل أن يحيطوا أنفسهم بأصدقائهم وبأشخاص موثوق بهم للتحاور معهم والترويح عن أنفسهم وتلقي الدعم الذي يحتاجون إليهم.



ما هي تفاصيل منصة Speakup Covid التي أسّستِها في لبنان؟

Speakup Covid هي منصة استماع تستهدف جميع المعالجين والعاملين في الخطوط الأمامية في مجال الرعاية الصحية خلال هذا الوباء.

نحن نقدّم لهم فرصة أن يستفيدوا من استشارات هاتفية مع علماء نفس مؤهلين يصغون إليهم ويدعمونهم لمواجهة الأزمة التي اضطروا للعمل فيها تزامناً مع الحفاظ على خصوصيتهم.

نأمل في تقديم المساعدة اللازمة لهؤلاء الأشخاص وتعزيز قدراتهم ومرافقتهم نفسياً خلال هذه المحنة الصعبة.


MISS 3